02-ديسمبر-2020

تغير نمط المشاهدة في قطاع الترفيه البصري بفعل تغير نمط الإنتاج (Getty)

قبل ثلاثة عقود أو أربعة من الآن، كانت أجهزة التلفاز تغزو المنازل والمحال والمقاهي في منطقتنا العربية، وتحوّل هذا الجهاز الصغير الذي ظهر للمرة الأولى بصيغته الحالية في العام 1927، على يد الأمريكي فيلو فارنسورث، إلى وسيلة التسلية الأولى لأفراد الأسرة، والمصدر الأساسي لمدّهم بالأخبار والمعلومات. وخلال عصره الذهبي، نجح التلفاز في جمع أفراد الأسرة في غرفة واحدة لمشاهدة البرامج المتنوعة في تلك الفترة، وكان الأب غالبًا يدير زمام الأمور من خلال آلة التحكم عن بعد "ريموت كونترول"، وبالتالي فإنه يفرض إرادته على الجميع. واحدة من أمور كثيرة في مجتمعاتنا خاضعة للسلطة الأبوية.

يمكن القول أن المنتجين في قطاع الترفيه البصري قد ربحوا المعركة مرة أخرى، استعادوا بشكل كبير القدرة على التأثير على الرأي العام، وتوجيهه نحو هذا العمل أو ذاك بفعل تقنيات الإنتاج الحالية وخوارزمياته. إلى جانب دور مواقع التواصل الاجتماعي

لم يكن عدد محطات التلفزة كبيرًا في التسعينات، ولم تكن ظاهرة الصحون اللاقطة قد انتشرت بعد، وبالتالي فإن الخيارات كانت محدودة إلى حدّ كبير، وعليه كانت العائلات تشاهد تقريبًا المواد نفسها، الأمر الذي أعطى بعض البرامج والمسلسلات في تلك الفترة شعبية جارفة. يمكن القول أن عددًا محدًدا من مسيّري ومديري المحطات يومها، كان قادرًا على التأثير على الرأي العام وتوجيهه. كان التلفاز يفرض عليك ما تشاهده، ومتى تشاهده، والإعلانات التي ستظهر خلال مشاهدتك لبرامجك المفضلة. إذا كان التلفاز هو النافذة التي كنت تطل من خلالها إلى العالم في النصف الثاني من القرن العشرين، فإن إطلالتك على هذا العالم كانت وفق ما تريده محطات التلفزة. حلّ التفاز مكان الراديو، الصحف، المجلات والدوريات، طبع تلك الحقبة بطابعه الخاص.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا شاهد أكثر من 30 مليون شخص فيلم "Murder Mystery" على نتفلكس؟

بينما شهد عالم الاتصالات وعلوم البصريات تطورًا سريعًا في فترة التسعينات، فانتشرت أجهزة الفيديو والأقراص المدمجة dvd، كذلك أحدث التطور في علوم الأقمار الاصطناعية طفرةً في القنوات التلفزيونية. فكانت الصحون اللاقطة "الستلايت" إحدى أبرز السمات التي طبعت مطلع الألفية، ووجد المشاهد نفسه غارقًا بآلاف الخيارات. كما ظهرت القنوات المتخصصة، فازداد عدد أجهزة التلفاز في المنازل لكي يتسنى لكل فرد من أفراد الأسرة أن يشاهد ما يحبّه. فهناك جمهور لكرة القدم التي بات لها محطات تعرض مبارياتها على مدار الساعة، هناك جمهور للأفلام الأجنبية وآخر للعربية، محطات مخصصة للأطفال، محطات دينية وأخرى فنية.

طاقم عمل مسلسل صراع العروش في بلفاست (Getty)

يمكن القول أن "الستلايت" أعطى المشاهد خيارات أكثر، ولم يعد رهينة لعدد محدّد من مديري  محطات التلفزة القليلة، كما كان الوضع في السابق. التطور في عالم الإنترنت، وظهور التطبيقات التي  تعرض مقاطع الفيديو، أعطت المشاهد كمًا مهولًا من الخيارات، تحرّر المشاهد هذه المرة من سلطة التلفاز في تحديد نوعية البرامج وتوقيتها. من خلال الإنترنت يمكنك أن تشاهد ما تشاء وقتما تشاء. كان هذا تحولًا عظيمًا في ما يخص العلاقة بين صنّاع المواد ومتلقّيها.

"الثورة الرقمية جعلت أشياء كثيرة لم نكن نتصور حدوثها قبل سنوات، أمرًا ضروريًا اليوم، لا يمكن أن نتخيل حياتنا بدونها اليوم". عبارة مشهورة يُفتتح بها مسلسل "ضيعة ضايعة" واسع الانتشار. الهواتف الذكية، الحواسيب المحمولة، الاختراعات العظيمة والمدهشة، إضافة إلى آلاف التطبيقات أعطت الفرصة للمواطن المعاصر أن يمتلك العالم بين يديه. سرقت التطبيقات التي تعرض الأفلام والمسلسلات الأضواء من الجميع، تراجع دور التلفاز والراديو، لم تعد هناك قيمة كبيرة للمواد المعدّة سلفًا. إذ يستطيع المشترك في نتفليكس، HBO  وغيرها أن يشاهد أحدث الإنتاجات الفنية التلفزيونية أو السينمائية. أتاحت وسائل التواصل والمواقع المختصّة في الأفلام الفرصة للمشاهد لقراءة المقالات والمراجعات حول الأعمال الفنية، والتفاعل مع أصدقائه عبر وسائل التواصل، وتبادل الاقتراحات والآراء. فهل يمكننا القول أن المشاهد استعاد حريته تمامًا.

اقرأ/ي أيضًا: وسائل الإعلام الكندية.. تأييد أعمى وتحيز واضح لإسرائيل

بالرغم من وفرة المواد المعروضة اليوم، فإن معظم المشاهدين يشاهدون الأعمال نفسها في الوقت نفسه. نذكر في هذا المجال، انتظار عشاق مسلسل صراع العروش Game Of Thrones  لساعات طويلة من أجل مشاهدة الموسم الأخير فور عرضه. المشاهد يقع إذًا من جديد في قبضة منتجي هذه الأعمال. قلة قليلة هي التي تختار الأعمال التي تريد مشاهدتها، بمعزل عن توجه الرأي العام الذي ينحاز في كل فترة نحو عمل محدد. مسلسل The Queen's Gambit  الذي عرض مؤخرًا هو خير دليل هنا.

حرص معظم المشاهدين على إنهاء مشاهدته في فترة قياسية لكي يشعروا أنهم يجارون الموجة. التقييمات والمراجعات تقلّل من قدرة الفرد على تقييم العمل بطريقة موضوعية، فالمشاهد إما ينساق مع الذائقة العامة، فيزيد إعجابه بالعمل، وإما يخيب أمله لأن التقييمات رفعت سقف توقعاته، ولأنه لم يشعر بما شعر به الآخرون. تشتعل المعارك على مواقع التواصل، بين من يعتبر عملًا ما تحفة فنية Masterpiece ، وبين من يرى أنه مبالغ في تقديره overrated. بالمحصلة، يمكن القول أن المنتجين ربحوا المعركة مرة أخرى، استعادوا بشكل كبير القدرة على التأثير على الرأي العام، وتوجيهه نحو هذا العمل أو ذاك. فقد التلفاز دوره، هذا صحيح نسبيًا، لكن المشاهد لم يتحرر من الأغلال، لا يزال عبدًا للتكنولوجيا، للميديا، للموجة التي  تخلقها الميديا، بكل ما تحمله كلمة عبد من معنى!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صفحات البيع "أونلاين" في لبنان.. مهنة الذين لا مهنة لهم

متحف باسل الأسد.. صناعة تاريخ "الجزمة"