03-سبتمبر-2023
شرفات المدن الترا صوت

في كل مدينة حكاية لم ترو بعد هي حكاية الشرفات (الترا صوت)

منذ قرابة عشر سنوات، وأثناء جولة قاهرية، في شوارع وسط المدينة تحديدًا، بصحبة صديقي الكاتب الراحل أحمد مدحت، لاحظت أن عيناه شاخصتان إلى الأعلى فسألته عن السبب، وأجابني بأنه دائمًا ما ينظر إلى الأعلى بحثًا عن البراح وهربًا من ضيق الأسفل، وأنه يحب قراءة لافتات الأطباء وأسماء المحلات والإعلانات المعلقة أعلى العمائر. لم أتفهم الأمر تمامًا، لكن وجودنا في وسط القاهرة أزال عني العجب، فالأبنية المشيدة على الطراز الأوروبي جديرة بأن تلفت انتباه المارة.

أعدت بعد ذلك اليوم اكتشاف شغفي في النظر إلى الأعلى، وصرت حريصًا على قراءة كل اللافتات، وتلمّست جمال المعمار في الأبنية القديمة، ونادت عليّ الحكايات من خلف شرفاتها. وللشرفات قصة مختلفة، خاصة ذات الأبواب الخشبية القديمة التي تحمل معها من التاريخ حاضرًا مفعمًا باليأس والأمل في آن.

البلد من الأعلى

"البلد دي اللي يشوفها من فوق.. غير اللي يشوفها من تحت". أصبحت هذه الجملة التي رددها المشخصاتي المتفرد عادل إمام في فيلمه الشهير "طيور الظلام"، بينما ينظر إلى القاهرة من شرفة أحد الفنادق الفارهة، أداةً للتفرقة بين ما نراه من أعلى وما يُرى من أسفل. ففي الأسفل تبدو القاهرة مثلها مثل كل المدن الكبيرة: خانقة ومزدحمة يملؤها الغبار والضيق. بينما هي من الأعلى ساحرة، كأن المعز لدين الله الفاطمي قادم ليغزوها في ليلة باردة دفعت سكانها للاحتماء بدفء بيوتهم.

لدي مع المدن حكايات، سوادها الأعظم تشكّل عندما نظرت إلى أعلى، سيما الشرفات التي دائمًا ما تنبئ بأن خلفها حكايات لم يروها أحد بعد. تلك الشرفات المغلقة التي يقبع خلفها أناسٌ يضحكون وآخرون يبكون. قد يكون خلفها شابة جامعية تذاكر لامتحان الغد بدمع عينيها، أو رجل ينعى هم الحياة التي لا يستطيع مجاراة الغلاء فيها، وآخر يضاجع امرأة جميلة فيهيم بروحه إلى السماء السابعة، بينما جسده لا يزال بين أربعة جدران وشرفة. أنظر إلى الشرفات وأتخيل أناسها وأغزل حكاياتهم في خيالي وأمضي، وأنا الغريب الذي أحبته كل المدن وأحبها.

المدن أشخاصٌ مثلنا، وكل مدينة تروي قصتها بطريقتها، فثمة مدن ترويها بعماراتها القديمة، وأخرى بآثار مجدها التليد المنقضي، وثالثة بعبق مقاهيها ومحالها. لكن ثمة في مدينة حكاية لم ترو بعد، وهي حكاية الشرفات

"يمر أمام بيتها في شارع النحاس كما فعل ألف مرة من قبل.. هذه المرة يرى بوضوح باقة الأزهار في شرفتها. بالطابق الخامس.. رسالة صامتة بليغة". يحكي الأديب الراحل أحمد خالد توفيق في هذا النص عن الذكرى التي تتكون لديه عند مروره بمنزل حبيبته بعد زواجها، أي شرفة قاسية هذه! يتهيأ لي أن الورد المعلق بتلك الشرفة لا يقل قسوة عن ذلك الذي يُوضع فوق القبور. الفارق هنا أن الورد فوق القبور يوضع لأجل عزيز فقدناه. أما الورد في شرفة امرأة أحببتها وتزوجت من غيرك، فهو موضوع فوق قبرك أنت شخصيًا.  وفي لقاء تلفزيوني معه، شاهدت الأديب الراحل يحكي عن مروره بتلك الشرقة قائلًا إن قلبه كان ينفطر في كل مرة يمر فيها بتلك الشرفة؛ لم أتعجب مطلقًا فهو الآن يمر فوق رفاته.

شارع النحاس، حيث تقع تلك الشرفة، هو أحد أشهر شوارع مدينة طنطا الواقعة في شمال مصر، والتي تشتهر بمسجد ومقام الولي الشهير السيد أحمد البدوي، وتلك المدينة عجيبة! فيها سرٌ غريب ينبئ دائمًا بأن شوارعها تحمل الكثير من الذكريات وقصص الحب والدموع. أعرف صديقين تزوجا بعدما جمعتهم تمشية في شوارع طنطا، لذا فليس غريبًا أن تكون شرفاتها محملة بالحكايات إلى هذا الحد.

ولشرفات المحلة قصة أخرى!

بالقرب من مدينة طنطا، تقع مدينة المحلة التي تشتهر بصناعة الغزل والنسيج، تلك المدينة العمالية الساهرة التي تعمل على مدار الساعة دون أن تأخذ غفوة لتستريح. في أيام كثيرة قضيتها في تلك المدينة، وبينما أتجول في شوارعها، كنت دائمًا ما أتطلع إلى شرفاتها، خاصة تلك المنطقة الواقعة على أطراف المدينة التي تدعى "المشحمة"، وهي منطقة ذات عمائر طويلة تخبر شرفاتها بشيء ما لم أتبين ما هو، ولكنها دائمًا ما كانت تدفعني للنظر إليها.

المدن أشخاصٌ مثلنا، وكل مدينة تروي قصتها بطريقتها، فثمة مدن ترويها بعماراتها القديمة، وأخرى بآثار مجدها التليد المنقضي، وثالثة بعبق مقاهيها ومحالها. لكن ثمة في مدينة حكاية لم ترو بعد، وهي حكاية الشرفات.