02-أغسطس-2019

غرافيتي من تصوير يونا هاملز (إنستغرام)

المقاطع الآتية مأخوذة من كتاب The Stuff of Thought للعالم النفساني ستيفن بنكر، ننقلها مترجمة إلى العربية.


تُعَدُّ الاستصحابات الذهنية المتغيرة لأسماء الاشخاص مثالًا على قدرة الكلمة على الاكتساء بصبغة انفعالية، أي أنْ تَكون لها دلالة. يمكن إيضاح مفهوم الدلالة باستخدام الصيغة التي ابتدعها برتراند راسل: أنا حازم، أنت عنيد، أما هو فرأسه يابس. حتى إن هذه الصيغة تحولت إلى برنامج مسابقات على الراديو لإيجاد الصيغ الثلاث للكلمات: أنا مهفهفة، أنت نحيفة، أما هي فعجفاء (= نحيلةٌ بقبح). أنا متوخٍّ للكمال، أنت ملحاح، أما هو فموسوس. أنا أستكشف جنسانيتي، أنتِ لعوب، أما هي فعاهرة.

إذا كانت التابوهات اللغوية تُعَدُّ إساءةً وتثير بعض الحساسيات، فإنَّ ظاهرة اللغة التابوهية تعد شيئًا غريبًا من منظور الحس العام

في كل طقم من هذه الثلاثيات، يبقى المعنى الحرفي واحدًا، لكنّ المعنى الانفعالي يتراوح بين الامتداح إلى الحياد إلى الذم.

اقرأ/ي أيضًا: التمرد بالبورنوغرافيا.. كاماسوترا التلصص الجنسي

تتضح الحمولة الانفعالية للكلمات في تلك الظاهرة المحيرة: الشتائم. مما يحير دارسي علوم العقل أنه لماذا عندما يحدث لنا موقف سيئ - تجرح إصبعك أثناء تقطيع السلطة، أو تُسقط وعاءً زجاجيًّا فينكسر- فإنَّ حديثنا يتحول فجأةً إلى الجنسانية، البراز، أو الدِين. كذلك فإن من غرائب بنيتنا النفسية أنَّه عندما يعتدي أحدهم على حقوقنا - يوقظك جارك في السادسة صباحًا من يوم عطلة باستخدامه لمنفاخ ذي صوت فظيع مثلًا- فإننا ننصحه على طريقة وودي آلن حين وصف مشاجرته مع أحدهم: "قلت له أن يثمر ويتكاثر، لكن ليس بهذه الكلمات طبعًا" (*).

تبدو نوبات الغضب هذه وكأنها تنشأ في جزءٍ قديم وعميق من الدماغ، بالضبط كنباح الكلب عندما يدوس أحدهم على ذيله. لكن على الرغم من أصلها التطوري القديم، فإن هذه الشتائم تتكون من لغة إنجليزية وتُلفظ بشكل يتماشى مع نظام اللغة. كما لو أن الدماغ البشري قد عُدِّلَ خلال التطور، بحيث أصبحت مخرجَات نظام الصراخ والبكاء القديم تدخل كمدخلات للنظام الحديث لِلُّغة المتطورة.

وليس الأمر أننا نتحول نحو كلمات البراز والجنسانية والدين عندما نُثار وحسب، بل أننا نكون منتبهين جدًّا لهذه الكلمات حتى عندما لا نكون مُثارين. إنَّ الكثير من النعوت ليست غير مقبولة فحسب، بل هي تابوهات بحد ذاتها، مجرد التلفظ بها يعد إساءةً للمستمعين، ويمكن تتبع جذور ذلك في سِحْر الأوفاق (= شكل من أشكال الطلاسم) والكلمات في الثقافات التقليدية حول العالم. وفي اليهودية الارثوذوكسية مثلًا، ليس مسموحًا لأحد أن يتلفظ باسم الرب - الذي يكتب يَهْوَه - إلا من قبل كبار شيوخ الطائفة في مناسبات وأمكنة خاصة جدًا، أما في الحياة اليومية فيستعاض عنها بكلمة "هاشيم" والتي تعني: الاسم.

إذا كانت التابوهات اللغوية تُعَدُّ إساءةً وتثير بعض الحساسيات، فإنَّ ظاهرة اللغة التابوهية تعد شيئًا غريبًا من منظور الحس العام. فالتبرز مثلًا نشاط لا بد لكل كائن حي من القيام به يوميًّا، ومع ذلك فإن الكلمات الإنجليزية لوصفه هي إما طفولية، غير مهذبة، أو هي مصطلحات سريرية. وهكذا نجد المعجم الإنجلوسكسوني العملاق يخرس فجأة عندما يتعلق الأمر بنشاط عادي لا يمكن لأي كائن تجنبه.

كذلك من المحير أيضًا عدم وجود صيغةٍ مهذبة لفعل مُتعدٍّ في ما يخص الجنس – كلمة يمكن استخدامها ببساطة في عبارة آدم فَعَلَ حواء، أو حواء فعلت آدم- فالأفعال المتعدية الدالة على الجنس هي أما بذيئة أو غير محترمة، والأكثر شيوعًا من بينها هي من ضمن الكلمات السبع المحظور قولها على التلفزيون. أو على الأقل من الكلمات التي لم يكن بوسعك قولها عام 1973، عندما قدم الكوميدي جورج كارلاين احتجاجه التاريخي على حظر استخدام هذه الكلمات في الوسائل الإذاعية، عوقبت محطة الراديو التي سمحت له بالتلفظ بتلك الكلمات نفسها التي كان يُطالب بجعل استخدامها مباحًا. إن لدينا قانونًا يحظر التعرض لهذا القانون نفسه، في مفارقة كانت لِتحوز على اهتمام برتراند راسل وغيره من المهتمين بعبارات المرجعية الذاتية.

مفارقة تحديد الكلمات التابوهية دون ذكرها أثَّرتْ على محاولات تقنين الكلام في ما يخص الجنسانية. ففي العديد من الولايات، لم يجرؤ من حاولوا تشريع قانون ضد ممارسة الجنس مع الحيوانات أن يُسَمُّوا هذا الفعل بالاسم في نص القانون، ولذا فقد نص القانون على حظر "الجريمة الشنعاء ضد الطبيعة"، إلى أن تعالت الأصوات المعترضة على القانون لكونه ملتبسًا وغير واضح المحتوى. ولتجنب هذا الخطأ، قام المشرعون في ولاية نيوجيرسي بسن قانون ضد البذاءة يذكر هذه الكلمات بالحرف ويعدها ممنوعة الاستخدام، لكن المفارقة أنَّ بعض أصحاب المكتبات القانونية مزّقوا الصفحة التي تحتوي هذه الكلمات من نص القانون لشدة بذاءتها.

لا تزال التابوهات اللغوية مفروضة في برامج الأخبار. ومع كونها شائعة جدًّا على مستوى الاتصالات الشخصية والإنترنت، فقد حاولت الحكومة الامريكية مدفوعة بالمحافظين قمعها، خصوصًا في وسائل الإعلام الإذاعية والتلفزيونية. وهكذا سُنَّت قوانين كقانون "فرض التهذيب الإذاعي" توجب غرامات هائلة على وسائل الإعلام التي لا تقوم بحجب الكلمات البذيئة عندما يتلفظ بها ضيوفها.

وفي حادثة طريفة تكشف حجم النفاق في موضوعة التابوهات اللغوية، مُرِّرَ قانون فرض التهذيب الإذاعي في مجلس الشيوخ عام 2004، بالضبط في اليوم الذي حدثت فيه مشادة كلامية بين نائب الرئيس ديك تشيني والسيناتور باترك ليهي، حين طلب ديك تشيني من خصمه – تحت قبة البرلمان - أن يثمر ويتكاثر، لكن ليس بهذه الكلمات طبعًا.

في أمريكا، سُنَّت قوانين توجب غرامات هائلة على وسائل الإعلام التي لا تقوم بحجب الكلمات البذيئة عندما يتلفظ بها ضيوفها

إن مدى الازدواجية والاعتباطية في ظاهرة التابوهات اللغوية لا يمكن أن تخطئه العين. لماذا لبعض الكلمات –دون مرادفاتها أو مماثلاتها اللفظية- قوةً معنوية سلبية؟ ومهما بدا من اعتباطية الأمر فإن الجميع يحترم التابوهات في بعض الكلمات على الاقل. الجميع؟ نعم، الجميع.

اقرأ/ي أيضًا: ماذا يقول علم النفس عن الجنس الجماعي؟

ماذا لو أخبرتك أنَّ هناك كلمة شديدة البذاءة لا يستخدمها الناس المهذبون حتى في المحادثات غير الرسمية؟ بالضبط كما أنَّ اليهود المتدينين لا يستطيعون أن يتلفظوا بكلمة يهوه بشكل مباشر، بل يستخدمون كلمة تشير الى هذه الكلمة، فيما يقتصر التلفظ بكلمة يهوه على دائرة ضيقة من النخبة، كذلك فإنَّ كلمة Nigger تتمتع بذات الخصوصية، إذ يشار اليها بالصيغة المهذبة بـ"الكلمة نون/ N-word"، والتي لا يستطيع إلا الأمريكان من أصل أفريقي استخدامها كعبارة محببة للدلالة على التلاحم والإخوة.

 

هوامش

* يُعَرِّض آلن هنا بعبارة وردت في سِفر التكوين "وباركهم الله وقال لهم: اثمروا واكثروا واملؤوا الأرض"، يقصد ألِن أنه قال لغريمه Go F*ck yourself أو شيء من هذا القبيل

 

اقرأ/ي أيضًا:

"الجنس الموظف" يبحث عن عمل

"الجنس والمدينة".. مسرح هشّ لخيال الفتاة الأمريكية