12-مايو-2017

الشاعرة لينا عطفة خلال قراءتها (فيسبوك)

لستُ بصددِ تسويق المهرجان كوني جزءًا منهُ، ولئلا يكون فعلي دعائيًا، ولست بمعرض الحديث عنه نقدًا، فمهرجانُ ضمّ في جنباته اثني عشرَ كاتبًا، معظمهم لهم بصمتهم وتواجدهم في المشهد الثقافي العربي، إضافة إلى الأسماء الألمانية لهو كفيلٌ بتقديمِ صورة واضحةٍ عما سأشيرُ إليهِ، وأتركُ متلقيًا حصيفًا ممن تلقىَّ مباشرة ومن قاعةٍ جمعت أكثرَ من مئتين وخمسينَ متابعًا، أغلبهم ألمانٌ، وكذلك من قراء هم على علاقةٍ مع كتّابٍ توصّلوا بمنجزهم، وتفاعلوا معهم سواء عن طريقِ كتبٍ أو نصوصٍ منشورةٍ في الصحافةِ، على مدارِ يومين، تمّ تشييد علاقة طيبة مع قارئ عربي وآخر ألماني، وسُمعتْ الكتابات بلغتين، ولربّما كانتِ الشحناتِ العاطفيةِ في أصواتِ المنتجين قادرة على خلق موسيقا ذاتية، جعلتِ النصّان يسيرانِ معًا، باللغة الأم وباللغة التي تمت الترجمة إليها، وكما لو أنَّ الصوتين خلقا ترجمة إضافية بفعل تلكَ الموسيقى الشجيةِ، التي جاء بها صدقُ العلاقة مع الموضوع وبلاغة اللغةِ وموفقيةِ السرد للنصوص السردية، والسوية الجيدة المتحققة في النصوص الشعرية!

حاكت نصوص الكتاب السوريين، في مهرجان كولن، الحربَ من جوانيتها ومن خارجها

المهرجان كانَ مختبرًا للندية مع كاتب ومتلقٍ آخرين، وهنا تكمن أهميته، إذ في احتفاءات بالكتابة السورية على وجه الخصوص، كانَ الآخر يبحثُ عن الخبرِ والصورة التي تبصرهُ بما يحدث "هناك"، ولذلك السؤالُ النقدي والأصيل حول جوهر الكتابةٍ يغيبُ لصالحِ ماهو أقل من أدبٍ، وينحو نحو سؤال صحفي خبري، لايصمد طويلًا، وسرعان ما يأتي ما يجِبهُ، من بابِ: "الجديد يَجِب ما قبلهُ". 

اقرأ/ي أيضًا: عباس كيارستمي.. ريح الشعر وأوراق السينما

لم تكن المادةُ المقدّمة بعيدةً عن الحرب، بل حملتْ صورَ عنها وعنِ المعيش في ظلها، وحاكتها من جوانيتها ومن خارجها، بوصفِ الكتّاب هم ممن فروا من أهوالها ووجدوا فرصة، لينظروا إليها من خارج دائرتها، لنجدُ تلكَ المواربة في تخليصِ النص من ردةِ الفعل أو المباشرة أو السطحيةِ، أو محاولة استدرارِ العاطفةِ، وشحن النص بطاقةٍ بكائيةٍ ستحقق فعلها، لكنها ستخبو، لأنَّ قارئاً ما، تعرّف الصورة الإعلامية، وصارت لاتعنيه تلك الصورة المؤسية التي يتحصلها بوسائل مختلفة، وهو حين يحضرُ ليسمعَ أدباً، يريدُ أ ن يسمعَ أدباً، ولايمنع أنْ تأتي الحرب موظفةً كحامل ودلالات وليسَ قواماً كاملاً يطغى على التقنية واجتراحاتِ الكتابةِ من كونها في علاقة متقدمة ودائمة مع المتغيرِ، وإلا لن تحقق فعلها النفسي ولا مراميها الجوهرية والكونيةِ.

في اليومِ الأول: انحازتِ النصوص للسرد، واستطاعت الصحفية والمترجمة والمستشرقة الألمانية لاريسا بندر وبأسئلة ذكيةٍ أن تقرب المسافة بينَ المنتجِ والمتلقي، وتعرّف باللغةِ ومنتجيها، ثمّ ليقرأ جبار عبد الله، مدير المهرجان، وهو آثاري، ألّف كتابًا بالألمانيةِ عن الرقة، في مقاربةٍ موفقة بين نهرين هما الفرات والراين، وكانَ نصه من تلكَ المقاربة التي تذهبُ إلى أن هذه المدينة لا توسم بمحتلها "داعش"، إنما مدينة شهدت الحضارات وما زالت تنتج الجمال ولها قصتها مع الثورة، رغم كل هذا الخراب الذي يلفُ البلد، أما مشاركةُ الروائي والشاعر والإعلامي إبراهيم الجبين جاءت من روايتهِ الأخيرة "عين الشرق"، التي حظيت باهتمام وجدل واضحين، يصبان لصالحها في أغلبها. كاتب هذه السطور شارك بـ"شَركُ الحواجز"، نص سردي من روايته "الشمال الشرقي/ ظلال سيرة الجنوب"، تحدّث عن رحلة عبورٍ من الكويتِ إلى سوريا، ومن ثمّ من سوريا إلى تركيا فألمانيا. 

المشاركة الألمانية كانت للدكتور هارالد كلاين Harald Klein بمشهد تمثيلي، رافقه فيه الشاب السوري مولود، جسّد مفصلًا من كتابه الذي ألّفه عن رحلته كباحث آثار في الرقة ودير الزور والحسكة. يمكنُ وصف هذا اليوم بأنّه كانَ مكثّفًا وحقق تفاعلًا كبيرًا، استطاع أن يمتدَّ لليوم الثاني. 

دخلت الشاعر لينا عطفة إلى القاعة مرتديةً قناعًا واقيًا عن الغازات، في إشارةِ إلى مجزرة خانِ شيخون

في اليوم الثاني، افتتحتِ الشاعرة لينا عطفة المشهدَ بدخولها القاعة مرتديةً قناعًا واقيًا عن الغازات، للإشارةِ إلى الجرمِ الشائنِ للنظام السوري ومجزرته الكيماوية في خانِ شيخون، وألقَت بعدَ هذا المشهد الذي أرخى بظلالهِ على الأمسية قصيدةً شفيفةً. الصحافي مصطفى علوش قرأ رسالةً صحفية مشحونة بذكريات، بدا واضحًا خطّها الحزينُ من تهدّج الصوتِ ولغتها البعيدةِ عن التكلف. عمر قدور شاعر وروائي، قرأ ما يشبه سيرة ذاتيةِ لمعايشتهِ عن كثبٍ الخوف طيلة فترة وجوده في مناطق اشتباك بين النظام السوري والمعارضةِ، كانت لغته محكمة وآسرة. القاصة لبنى ياسين، ساهمت بقصةٍ، سردتْ رحلة عبور في البحر، أظهرت فيها ذلك التمسكَ الحثيث بالأطفالِ والتماهي مع الرغبة في بقائهم على قيد الحياة والأمل، نص الشاعر والصحفي رامي العاشق كان شعريًا، ميّالًا إلى الحبّ والمجاهرةِ الشفيفة بهِ كنوع من الخلاص وعلاقةٍ يشيّدها الشاعر مع كونه/ محيطه. النص الألماني كانَ لكريستيان لينكر Christien LINKER، قال فيه الكاتب إنّه يحاول في رواياته التركيز على الفتيانِ للحيلولة دون وقوعهم في شركِ الأفكار المتطرفةِ.

اقرأ/ي أيضًا: الترجمة في اللغة الكرديَّة: محاولة ردم الهوّة المعرفيَّة في زمننا الرّاهن

قلت بدءًا هذا المهرجان كانَ مختبرًا، وإن اختلفت مستويات النصوص لطبيعتها وبما يخص عمقها، وهذا الاحتكاك، خلق شعورًا ضمنيًا وآخر ظاهرًا بأنَّ أدبًا جديدًا موجودٌ وقادر على المنافسةِ، وهو ما سيجعلُ كاتبًا يعيشُ خارجَ أرضه وثقافتهِ أن يستشعر بأن لديه القدرة ليكونَ معلّمًا، لا أنْ يبقىَ متعلّمًا ومتلقيًا لكل ما هو خارجه، على أنّه النافذ وله من الضوء، ما يجعلنا نتبعهُ وإن قادنا إلى نفقٍ بدلًا من إخراجنا منهُ. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

في صندوق بريد فرجينيا وولف

علي سعيد.. حقيبة ملأى بالناس