12-يناير-2022

لوحة لـ كازويا أكيموتو/ اليابان

اعتكف الشيخ أبو محمد ثمانين يومًا في بيته، وعندما خرج إلى الناس كان قد تأكد له أن يوم القيامة سوف يكون في السادس من آب/أغسطس العام 1951. ولأن المتبقي كان أقل من ثمانية أشهر، فقد تحتم على الشيخ أن يخبر أكبر قدر من عباد الله بهذا الموعد الداهم والأقرب كثيرًا مما كان يظن عندما ولج خلوته.

اعتكف الشيخ ثمانين يومًا في بيته، وعندما خرج إلى الناس كان قد تأكد له أن يوم القيامة سوف يكون في السادس من آب/أغسطس العام 1951

غير أن عباد الله لم يمهلوا الشيخ كي يبرح مكانه، ففي صباح اليوم التالي، وفيما هو يسرج دابته مزمعًا حمل بشارته إلى العالم، كان العالم كله قد صار في داره.. ذلك أن خبر اكتشافه المزلزل سرعان ما طار بين قرى تلك المنطقة الجبلية النائية، ودار على كل الألسن، وعبر بسرعة البرق حدودًا صلبة وسامقة بين مذاهب وطوائف وأديان، حتى أن الجبال نفسها بدت وكأنها تردد صدى تلك الكلمة المقدسة المرعبة..

اقرأ/ي أيضًا: تأملات في القيامة والمعنى

أحاطت به جموع مرتجفة، وعلت أصوات بالدعاء والاستغاثة والرجاء، وسرى نشيج محموم بين نسوة متشحات بالسواد، والبعض خروا ساجدين عند قدمي الشيخ متوسلين له أن يغير كلامه، فالساعة، وإن كان لا ريب فيها، إلا أنها هكذا وعلى يديه سوف تأتي أسرع من أن يستطيعوا إنهاء ترتيباتهم الضرورية لملاقاتها. ذكّروه بموسم الحصاد الذي سيكون بالكاد قد انتهى، وبتلال القمح التي لن تُدرس، وكروم العنب التي لن تُقطف، بالديون المترتبة وبالأبناء الغائبين، وبالحياة التي رغم كل شيء لا يزال فيها شيء من الحلاوة لم تُستنفد بعد.. وكان الشيخ يرد على كل ذلك بابتسامة مشعة وجملة واحدة مكررة: "وكأن الأمر بيدي؟!".

عند العصر وصل وفد من رجال الدين، معممين ومقلنسين.. بلحى ومن غير لحى، انتحوا بالشيخ جانبًا ورجوه أن يتعقل فما يقوله اليوم لم يقله بشر من قبل، ولا يجوز لبشر أن يقوله أصلًا، وأخبروه أنه لولا سيرته العطرة وسمعته التي لم تُخدش يومًا لكانوا زجروه بقسوة، ومع ذلك فقد أنذروه إذا لم يرجع عن كلامه حالًا فسوف يغلظون له القول والفعل.. لم يكن الشيخ يصغي لهم، ولم يلبث أن هرب من حلقتهم واتجه نحو الحشد، وأعلن بملء صوته أنه أبحر خلال ثمانين يومًا في الكتب المقدسة وفك جميع الطلاسم وفسر كل الرموز وأجرى الحسابات اللازمة وبطرق شتى، وكانت كل الطرق تنتهي إلى الأرقام نفسها: 6.. 8.. 1951، ولكنه أبدى ترددًا في تفصيل واحد، ذلك أنه لم يستطع القطع إن كانت "الساعة" سوف تُباشر مع مطلع فجر السادس من آب/أغسطس أم في وقت لاحق من النهار!

انقسم الناس إلى فرق ثلاثة: هناك من صدق وآمن وفزع وخشع، وهناك من أنكر وسخر، أما الفريق الثالث فقد ضم أولئك الحائرين المترددين. غير أنه لم يمض سوى شهر حتى صار الجميع كتلة واحدة، إذ لجأ كل من المنكرين والحائرين إلى تنويع على رهان باسكال (دون أن يكون أيًا منهم قد سمع باسم باسكال أو برهانه): إذا آمنا ولم يكن صحيحًا فلن نخسر شيئًا، وإذا لم نؤمن وكان صحيحًا فسوف نخسر كل شيء.

دب في الكل حماس ليس من هذه الأرض، وامتلأت الصدور بعاطفة مجهولة غامرة ومتفجرة، وعادت أبقار مسروقة إلى أصحابها، واستردت ديون مهملة

دب في الكل حماس ليس من هذه الأرض، وامتلأت الصدور بعاطفة مجهولة غامرة ومتفجرة، وعادت أبقار مسروقة إلى أصحابها، واستردت ديون مهملة، وتم الاعتراف بذنوب سقطت بالتقادم، وازدحمت دور العبادة بالمؤمنين الجدد، كما ازدحمت البيوت بالأهل والجيرة والأقارب والأصدقاء، ولم تنزل القدور عن المواقد إذ تواصلت الأيام في وليمة واحدة بلا نهاية. وطيلة ثمانية أشهر لم يحدث شجار واحد، ولم تُسمع شتيمة واحدة، ولا دارت جلسة نميمة في أي مكان. زُرعت الأراضي جماعة ورُويت جماعة وعُشّبت جماعة، وحُصدت بعض الغلال جماعة. امتلأت جيوب الأطفال بحلوى من أيد يعرفونها وأيد لا يعرفونها، وامتلأت الدروب بهدايا محملة على دواب اختلطت فيما بينها وضيعت وجهاتها..

اقرأ/ي أيضًا: تُرجم قديمًا: نهاية اليوتوبيا

وارتُجلت طقوس غريبة، عشوائية ومجنونة. كانت حلقات الدبكة تعقد فجأة، وفجأة تعقبها جلسة نواح. وكانت نساء تنتقل بلا تمهيد من اللطم والندب إلى الزغاريد، وكان رجال يقطعون أحاديثهم الوقورة ليتعانقوا دون أي كلمة وبعيون مملوءة بالدموع!

أخيرًا حل السادس من آب/أغسطس، وبالطبع فإن "الساعة" لم تأت ذلك اليوم، وإلى الآن هي لم تأت، فنحن لسنا في الجنة ولا في النار، وإن كانت أشياء كثيرة حولنا تشي بأننا نعيش جحيمًا ما.

حزن الشيخ كثيرًا واعتزل الناس، قبل أن يحمل متاعه القليل ويذهب إلى مكان بعيد، ولكن أحدًا على الإطلاق لم يُسمعه كلمة لوم أو عتاب، أو يذكره بسوء بعد غيابه. وكثير من معارفي، ممن عاشوا تلك الواقعة، ظلوا حتى آخر يوم في حياتهم يدمعون كلما ذُكر الشيخ أو السادس من آب/أغسطس. يبتسمون بنظرة شاردة كمن تذكر شيئًا جميلًا من حياته القصية، قصة غرامه الأول أو لحظة ميلاد ابنه البكر.

معلمي في المرحلة الابتدائية، والذي صار صديقًا حميمًا لي في شبابي وكهولتي، كان في العشرين من عمره في تلك الأيام، عندما كان على القيامة أن تقوم ولم تقم. ولقد اعتاد أن يروي لي تفاصيل كثيرة من تلك الحكاية. قال إن تعليمه وشغفه بقراءة كتب الفلسفة والتاريخ والأدب منعاه من الإيمان بنبوءة الشيخ، ومع ذلك فقد انساق مع الجميع وفعل مثلما فعلوا، ذلك أنها "كانت تجربة استثنائية لا تقاوم".

وعود السماء ووعيدها لا يغير شيئًا طالما أن الظروف على الأرض بقيت كما هي

قال: "كانت أيامًا ليست من هذا العالم، حياة ليست من هذه الأرض. لقد أقمنا يوتوبيا ساذجة ومضحكة ولكنها جميلة للغاية، وعشنا زمنًا قصيرًا لكن شفافًا، كان بإمكانك فيه أن تلمس العواطف بيدك، وأن تنفذ بنظرة إلى روح إنسان آخر، وأن تسمع بلا عناء وجيب قلوب من حولك..".

اقرأ/ي أيضًا: تقرير بحثي أسترالي: نهاية العالم في 2050!

وقال: "عندما لاح لنا خط نهاية العالم، شعرنا فجأة أننا نحب عالمنا هذا، وشعرنا كم هو صغير ورقيق وحميم، وأنه يدعو للشفقة، وما كان يجب أن يؤخذ على محمل الجد.. وشعرنا أن الحب أكثر من كلمات في أغنية عاطفية، وان السعادة ممكنة وأن الخلود ليس وهمًا".

سألته: "أنت تحب هذه الحكاية كثيرًا، فما هو مغزاها بالنسبة لك؟".

أجاب: "ليس بالضرورة أن يكون للحكاية مغزى، بالأحرى ليس بالضرورة أن يكون لها مغزى واحد محدد.. لقد تغير مغزاها بالنسبة لي مرارًا، وفي كل مرحلة من عمري كنت أفسرها بطريقة مختلفة. بعد أشهر على انتهائها، عندما زال مفعول التخدير، صحوت على نفسي وأنا ألعب دور الطبيب المثقف في رواية "قنديل أم هاشم"، فرحت أقول لي ولمن حولي إنه الجهل وحسب، وبغياب العلم فمن الطبيعي أن تتقدم التخاريف والنبوءات الزائفة لتحتل الفراغ.. وبعد سنوات من ذلك، وكنت قد أصبحت علمانيًا صلبًا، صار المغزى بالنسبة لي هو أن وعود السماء ووعيدها لا يغير شيئًا طالما أن الظروف على الأرض بقيت كما هي.. والآن وأنا أعيش خريف عمري، مرحلة الغروب، صرت أقول لنفسي: ولم لا؟! لماذا لا تكون الحياة جميلة حقًا، ولكن نحن من أخطأ السبيل؟! لماذا لا يكون النسيان هو آفتنا الكبرى، فنحتاج إلى كويكب يقترب من الأرض، أنباء عن زلزال محتمل، وباء يهدد بإفنائنا، تغير مناخي يتوعد بانقراض وشيك، أو حتى إنذار باقتراب الساعة.. كي نتذكر كم أن عالمنا صغير ورقيق وحميم ولا يستحق أن يؤخذ على محمل الجد؟!".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإنسان بين الحرية والتكليف

رسالة إلى الشتات: من نحن؟