يحاول الكاتب ليوس هايد في هذه المقالة التي كتبها لنيويورك تايمز الحديث عن مفهوم القومية والشعب وقيم القومية المحافظة، وتسليط الضوء على مآلاتها وتفاصيل خطوطها العريضة في ظلّ صعود الحركات المحافظة.


تتلوّن القومية بألوانٍ عديدة، من الإثنية والمدنية، إلى الدينية والعلمانية، واليمينية واليسارية. وقف الرئيس الأمريكي الديمقراطي ثيودور روزفيلت قبل قرنٍ من اليوم أمام الشعب الأمريكي ونادى بما أسماه القومية الجديدة التي تقوم على فرض ضرائب على الميراث، وحظر تغوّل أموال الشركات على السياسة، وتعويض العمال، وأجور تكفل للعاملين حقوق الحياة الأساسية. أتى مؤتمر المحافظة القومية (National Conservatism Conference)، الذي أقيم مؤخّرًا، بعد ذلك بمئة عام لينادي "بقوميةٍ أمريكيةٍ وبريطانيةٍ جديدة" ترتكز على وضع ميزانياتٍ مقتصدة، وحدودٍ وطنيةٍ قوية، والعودة إلى التقاليد القومية الأنجلو-أمريكية (أو البريطانية الأمريكية): "الدستورية، والقانون العام/الأنجلو-ساكسوني (نتاج تراث المدرسة القانونية البريطانية)، واللغة الإنجليزية، والنصوص المسيحية".

من المفيد دائمًا أن نحاول رسم صورةً متجدّدةً لقيمة الوطن في قلوبنا، ولكن علينا تذكّر أن ما لم يُنس من انقساماتٍ عرقية وإثنية وعقائدية هو ما يدمّر الشعوب

لا شكّ، بين هذا التعريف وذاك، أن هناك صورًا متنوّعةً وعديدةً للقومية، وعلى هذا فمن المجدي ربما أن نتمهّل ونسأل: ما هو الشعب؟ وثمّة جوابٌ مفيدٌ ومثيرٌ في صفحات القرن التاسع عشر اقترحه العالم الفرنسي إيرنست رينان: "جوهر شعبٍ ما هو اجتماع عددٍ من الأفراد يشتركون فيما بينهم في عديدٍ من الجوانب، وفي نفس الوقت أيضًا تناسيهم جميعًا لجوانب أخرى كثيرة".

اقرأ/ي أيضًا: بعد عقدين من مذبحة سربرنيتشا.. وكأن شيئًا لم يكن!

وما هي هذه الأمور التي يجب أن ينساها مواطنو شعبٍ ما قبل أن يصلح إطلاق مُسمّى شعبٍ عليهم؟ الفروق الإثنية واحدةٌ من هذه الجوانب: "لا يوجد مواطنٌ فرنسيٌّ اليوم يعرف من أين ينحدر أصله – البورجوند، أم الآلاين، أم التايفالا، أم الفيسجورث". هذه الفروق العتيقة، مثل الاختلافات الطائفية أو العقائدية، الأجدى بها أن تبقى مطويةً في الماضي. "فقد نسي كل مواطنٍ فرنسي"، يسلّم رينان، أن جيوش البابا قد أبادت الكاثاريين، أحد الطوائف المسيحية المعادية، في القرن الثالث عشر، وأنه في يوم السينت بارثولوميو، بالعودة إلى القرن السادس عشر هذه المرة، أزهقت الجماهير الكاثوليكية آلاف الأرواح من أبناء الطائفة الكالفينية البروتستانتية.

ولعل رينان سعيدٌ أنه بحلول زمنه لم تعد هذه الصراعات أكثر من قصصٍ ترويها صفحات التاريخ، وبهذا انعتقت فرنسا منها، وهذا مما سمح لها أن تكون فرنسا.

طيب، ماذا يمكن أن يحصل لشعبٍ لم ينسَ مواطنوه؟ لن ينصدم رينان ربما لو رأى ما حلّ بيوغسلافيا السابقة. فقد تعايش المسلمون البوسنة والكاثولوكيون الرومانيون الكروات والأورثوذكس الشرقيون الصرب معًا لسنواتٍ طوال تحت جناح الوئام. ولكن حملت الأقدار معها انهيار الشيوعية نهاية الثمانينات، وكان ما سيأتي هو انقسام الدولة إلى دويلاتٍ صغيرة على أساس مقوّمات الدولة السابقة، وهنا قام الصرب، خوفًا من أن يتحوّلوا إلى أقليةٍ يُنظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الثانية، إلى ذبح جيرانهم المسلمين.

وساعد سلوبودان ميلوسفيتش، أحد أبرع مسوّغي تأجيج ذاكرة الاختلافات، على غرس بذور عمليات التطهير الإثني التي ظهرت لاحقًا باحتفاله بذكرى معركةٍ قديمة. وفي نظر الصرب تحوّلت هذه الحادثة إلى ما يُعرف باسم الصدمة الانتقائية (الذكرى الجمعية لهزيمةٍ كبرى تجرّعها أسلاف مجموعةٍ ما)، وكانت الصدمة هذه المرة هي نكبةً قديمةً تمزج ذكراها بين وقائع تاريخية حقيقية وأنين مظالم وآمال معاصرة. ففي صيف عام 1389، على معترك بلاكبيرد في كوسوفو، تكبّد المسيحيون الصرب تحت قيادة الزعيم الإقطاعي لازار هريبيلجانوفيتش هزيمةً على يد المسلمين الترك. وأفضت هذه المعركة إلى وقوع كوسوفو تحت حكم الإمبراطورية العثمانية لأربعمئة سنةٍ قادمة.

وقام ميلوسفيتش احتفالًا بالذكرى الـ600 لهذه المعركة بحشد جمعٍ من الناس في أرض بلاكبيرد، حيث دارت رحى المعركة، وهبط هو بنفسه من طائرةٍ مروحيةٍ وكأن الأمير لازار نفسه قد هبط من السماء. ومن ثم ألقى خطابًا حشاه بإشاراتٍ إلى الكرامة والإهانة، والأرض الأم والخيانة، والشجاعة والمعاناة، والكبرياء والعار، بما كان، وبصورةٍ واضحة، محاولةً لإحياء عداوة وكرهٍ بين المسيحيين والمسلمين عفا عليهما الزمن.

وهكذا كان، فشهدت السنوات التي أتبعت ذلك حملات إبادة قتل فيها مقاتلون صرب ما يقارب 8000 رجلٍ وطفلٍ مسلم في بلدة سربرنيتسا.

هنري آدامز نعت السياسة ذات مرةً بأنها "التنظيم الممنهج للكراهية"، وينطبق هذا الوصف قطعًا على يوغسلافيا السابقة. وطبعًا هذا لا يقتضي بكل الأحوال خلو ذمة الأمريكيين من التحلّي بمهاراتٍ كهذه. ولا تحتاج أن تعود بالزمن قبل 1980 حينما ذهب الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريغان إلى مقاطعة نيشوببا في ولاية ميسيسبي حيث أطلق حملته الانتخابية خلال فعاليات معرضٍ يُقام هناك، نفس المكان الذي شهد مقتل ثلاثة عاملين مدنيين عام 1964، وصرخ ريغان هناك أمام الجموع التي كانت تهلّل: "أنا أؤمن بحقوق الولايات". أو دونالد ترامب نفسه الذي ذهب إلى نفس المعرض في تموز/يوليو 2016 مطمئنًا حشود مناصريه بأنه "يؤمن بالتقاليد"، وهي إشارةٌ بسيطةٌ في كلا الحالتين إلى قاعدة ناخبين تكرّس الحرب الأهلية وما آثرت به على الشعب الأمريكي من عداءاتٍ عرقية لتكون هي "صدمتها الانتقائية".

يُضيف رينان إلى تناسي الفروق، في رسمه لمفهوم الشعب، تعريفًا فيه شيءٌ من السلبية للهوية القومية، فهو يحصر بكل تأنٍ كل جانبٍ قد يعتبره الناس جزءًا من جوهر شعبٍ ما ليقوم بعد ذلك بإقصاء كل جانبٍ من هذه الجوانب. فالشعب هو ليس المعتقد الديني، أو اللغة، أو العرق، أو"السياسات الإثنوغرافية"، أو الاقتصاد، أو حتى الجغرافيا ("فلا تلعب التربة دورًا أكبر من العرق في نسيج شعبٍ ما"). ولمّا قام رينان بتقليم كل ذلك، فلم يُبِقَ سوى على شيءٍ زهيد غير الجزء الأول من تعريفه "لجوهر شعبٍ ما" بقوله إن مواطنيه "يتشاركون" في عديد الجوانب، ويقصد بذلك، برأي الكاتب، القيم العلمانية الجامعة التي تجدها في دستور الولايات المتحدة مثل حقّ الاقتراع العام، والإجراءات القانونية العادلة والتعهد بأن لا تقوم الحكومة بسنّ تشريعاتٍ "تقيم دينًا من الأديان".

ولكن هل من الممكن أن تقوم قوميةٌ جديدة تتصالح مع هذه القيم؟ ربما، ولكن مؤتمر المحافظة القومية، الذي نظّمته مؤسسة إيدموند بيرك، يبيّن مدى صعوبة ذلك.

فقد سعى منظّمو المؤتمر إلى "إعادة ترسيخ التقاليد الثرية التي اشتمل عليها الفكر القومي المحافظ"، وفي نفس الوقت كان إصرارهم على أن مشروعهم يقف "على طرف النقيض من النظريات السياسية المتجذّرة في العرق"، وهو نقيضٌ يرتكز في جزءٍ منه على ما يفترض أنه نظريةٍ سياسيةٍ أكثر نبلًا تتجذّر في "الثقافة".

ولكن تبيّن أنه من الصعب الفصل بين هذه المرتكزات وبين العرق والدين وقت محاولة تفصيل ذلك. "فالثقافة" كما يقول أحد المتحدّثين في ذاك المؤتمر تنبثق دائمًا من زمانٍ ومكانٍ محدّدين، وكان المثال المشهور الذي ساقه هو الخطبة الشهيرة التي صوّرت مستعمرة خليج ماساتشوستش على أنها "مدينةٌ على تلة"، وهو نصُّ حماسي يتجذّر في "تربةٍ محدّدة" و"طريقة تفكيرٍ محدّدة". والتربة هي إنجلترا، طبعًا، وطريقة التفكير هي الكنيسة البريطانية ذات النزعة البيوريتانية الراديكالية المعادية للكاثوليكية، فهي إذًا، باختصار، ثقافةٌ متمايزةٌ بقيمٍ أوروبية بيضاء بروتستانتية.

وكان هناك أمثلةٌ أخرى قدّمها المؤتمر لم تستطع أبدًا القفز فوق الانفصام بين القيم وتفصيلها، وكان المثال الأبرز والأغرب هو متحدّثُ نادى بسياسات هجرة تأخذ "التوافق الثقافي" بعين الاعتبار، مضيفًا، بدون أي تحرّج، أن هذا يعني بالضرورة "الإيمان بموقفٍ يقول إن بلادنا ستكون أفضل حالًا بزيادة عدد البيض وتقليص عدد غير البيض".

اقرأ/ي أيضًا: روسيا تستثمر في تفتيت البوسنة.. إعادة إنتاج "البلقنة"

ويظهر أن القومية الجديدة تقوم على تعطّشٍ للهوية، على بحثٍ عن موقع قدمٍ في هذا العالم متزاوجٍ مع أسلوب تقديم الذات بتباينها عن الآخر – "أنا بريطاني ولست فرنسيًا. أنا أمريكي ولست مكسيكيًا. أنا مسيحي ولست مسلمًا. أنا أبيض ولست أسود". ومن هذا المنطلق، تصبح القومية اختزالًا لكل هذه التباينات.

يظهر أن القومية الجديدة تقوم على تعطّشٍ للهوية، على بحثٍ عن موقع قدمٍ في هذا العالم متزاوجٍ مع أسلوب تقديم الذات بتباينها عن الآخر – "أنا بريطاني ولست فرنسيًا. أنا مسيحي ولست مسلمًا. أنا أبيض ولست أسود"

من المفيد دائمًا أن نحاول رسم صورةً متجدّدةً لقيمة الوطن في قلوبنا، ولكن علينا تذكّر أن ما لم يُنس من انقساماتٍ عرقية وإثنية وعقائدية هو ما يدمّر الشعوب.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دماء سربرنيتسا لم تجف.. إدانة "جزئية" لهولندا في المذبحة

جرائم نخب العالم ضد الإنسانية