01-سبتمبر-2016

صورة من احتجاجات سابقة في ولاية القصرين بتونس (Getty)

''همّا مين واحنا مين'' هكذا غنّى الشيخ إمام عيسى قبل عقود، الأغنية تأتي في سياق صعود للتيّارت اليساريّة الاشتراكيّة في عالمنا العربي. أغنية في صلب التقسيم الطبقي للمجتمع بين أغنياء وفقراء أو كما يشتهي الرفاق وصفهم بالبرجوازيّة والبروليتاريا.

قد لا تنتبه الدّولة التونسية إلى خطورة ما وصلت إليه حالة المناطق الداخلية إلاّ بعد انتفاضة اجتماعيّة قد تأكل الأخضر واليابس

لم أنتبه يومًا أننّا حقًّا نعيش تقسيمًا طبقيًّا وجهويًا على امتداد أوطاننا شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا. لا نعير له اهتمامًا في زحمة المشاغل اليوميّة وتراكم الأحداث السياسيّة أو في حال الفرار من كلّ ذلك إلى متع الحياة وزينتها أو ما نصوّره لأنفسنا من جمال تكتنزه ولايات الوطن.

اقرأ/ي أيضًا: الإعلام الفرنسي وموقفه من ارتداء البوركيني

و لكنّنا ننتبه حين وقوع المصيبة والكارثة حينها نسأل كيف حصل؟ وما الذي حدث؟

استفاق التونسيون صبيحة الأربعاء الماضي على حادث مرور مروّع حصد أكثر من 20 قتيلًا وثمانين جريحًا والعدد في تصاعد إلى لحظة كتابة هذه الأسطر.

سيهرع الجميع إلى الحديث عن القضاء والقدر وتزامن وجود الحافلة وسط السوق في لحظة فقدان سائق الشاحنة لتوازنه لتصطدم بعشرات السيارات والحافلة لتنفجر إحداها وتشعل النار في عدد من العربات ممّا فاقم من فداحة الحادث.

الكل في بلدي حزين وبكى لما سمع ورأى من هول المشهد، ولكن هذا الحادث قد كشف عورة الدّولة الوطنيّة التي لا تمرّ مناسبة إلا ووقف المسؤولون طويلًا في مدح إنجازاتها.

هذه الدّولة عجزت عن توفير سيّارات الإسعاف لنقل الجرحى والمصابين من مكان الحادث إلى المستشفى وأي مستشفى يمكن الحديث عنه في ولاية القصرين ذلك الذي يفتقر لكلّ شيء أوّلها الطبيب وليس آخرها التجهيزات الطبيّة.

اقرأ/ي أيضًا: بنقردان.. حصن تونس وقلعة الصمود

لا أحتاج لذاكرة حديديّة حتّى أذكر الإمكانيّات التي توفّرت في مدينة سوسة لحظة الاعتداء الإرهابي في أحد الفنادق الشاطئيّة ولا أنسى إقالة الوزير لرئيس قسم الطب الاستعجالي بسبب رفضه توفير سيّارت الإسعاف لنقل جثث القتلى من السياح إلى العاصمة. ولا الوفود المتتالية من مسؤولين ونوّاب ووزراء ورئيس الجمهوريّة لتفقّد الوضع ميدانيّا في جوهرة الساحل سوسة.

لا تحتاج لكي تكون خبيرًا في البنية التحتيّة حتّى تكتشف أنّها عرجاء مائلة لليمين، طريق السيّارة الوحيد في تونس يمرّ من الشمال الشرقي ليتوقف بعد 300 كلم في مدينة صفاقس الساحليّة في وسط شرق البلاد.

لم يتمكّن هذا الطريق من التشعب لعلّه يطول دواخل البلاد. فالطرق في بلدي كالأمل يضيق ويتعثّر كلّما توغّل غربًا، فهناك طرق لا يكبرها سنًّا إلاّ حاكم البلاد ولا يزيدها سوءًا إلاّ تواصل هذه الخيارت التنمويّة والاقتصاديّة للحكومات المتتالية.

كيف يمكن الحديث عن أدنى درجات المساواة بين أبناء الشعب الواحد والمواطن المحروق في القصرين ينتقل مئات الكيلومترات إلى العاصمة مجتازًا طريقًا عاديّة ليقضّي أكثر من 5 ساعات لعلّه يدرك علاجًا إن لم يدركه الموت في الطريق.

كنت قد كتبت في تدوينة على صفحتي على الفيسبوك تعليقًا على نتائج الباكالوريا في تونس والتي تصدّرت مدينة صفاقس كالعادة ترتيب نسب الناجحين وتذيّلت ولاية القصرين الترتيب.

فقلت إنّ ولاية القصرين هي ولاية عقوبة كمثيلاتها من المدن الداخليّة وحتّى أرياف المدن الساحليّة وذكرت يومها حادثة عايشتها في نفس السنة التي اجتزت فيها امتحان البكالوريا، إذ تقدّمت تلميذة بشكاية بأستاذ متهمة إيّاه بالتحرّش ورغم مساندة النقابة للأستاذ في محاولة لتبرئته، وبعيدًا عن الخوض في تفاصيل القضيّة ودرجة نزاهة لجنة التأديب في الوزارة مع العلم أنّ التلميذة هي ابنة أحد رجال الأعمال وذلك من سوء حظ الأستاذ المتهم فلجنة التأديب أصدرت عقوبة وهي نقل الأستاذ ''المتحرّش'' للتدريس في ولاية القصرين، فولاية القصرين في نظر لجنة التأديب بوزارة التربية عقوبة.

لذلك لا غرابة أن نجد طلبة كليّات الطب مضربين عن الدراسة رفضًا لقانون الخدمة المدنيّة الذي يلزمهم بالعمل لسنتين بالمناطق الداخليّة إثر تخرّجهم، فهم كالدولة تمامًا يرونها عقوبة لا خدمة مدنيّة.

قد لا تنتبه الدّولة والمجتمع التونسي ككل إلى خطورة ما وصلت إليه حالة هذه المناطق إلاّ بعد انتفاضة اجتماعيّة قد تأكل الأخضر واليابس ولعلّنا شاهدنا شيئًا منها في جانفي/يناير الفارط إثر وفاة الشاب العاطل عن العمل رضا اليحياوي إثر اعتلائه لعامود كهربائي احتجاجًا على حذف اسمه من قائمة انتدابات للعمل أدّى إلى تعرّضه لصعقة كهربائيّة. رضا توفي في الطريق لصفاقس التي تبعد 250 كلم عن القصرين للحصول على العلاج.

إنّ مصير الإستقرار في تونس قد يتحوّل رهين وعي الطبقة الحاكمة بضرورة انتهاج مسار جديد في التعامل مع هذه الملفّات وتخصيص حيّز مهمّ من جداول أعمالها للتوقف عند الأزمات المتفاقمة واتخاذ قرارات جريئة لعلّها تعيد الأمل لجزء كبير من الشعب.

ألمانيا إثر سقوط جدار برلين لم يفكّر حكّامها حينها في تأجيل حلّ أزمة التفاوت بين ما كان يسمّى ألمانيا الشرقيّة وألمانيا الغربيّة. حينها انطلقت مشاريع عملاقة في ألمانيا الشرقيّة لتعويض البنية التحتيّة والمرافق وإعداد المشاريع التنمويّة وتدارك مسائل الاختلاف الثقافي والتعليمي والسياسي بين الألمانيتين.

إذا لا مفرّ أمام السلطة إلاّ تدارك أخطاء دولة الاستقلال وإعادة التوازن للبلاد بالانطلاق في محاولة القضاء على التفاوت الجهوي.

و لكن هل يمكن التعويل على هذه الطبقة السياسيّة والتي يصحّ وصفها بأنّها ''ربيبة النظام القديم'' بكافّة مشاربها والتي تنحو منحى محافظ يعمل على عدم اتخاذ أي قرار إصلاحي تغييري من أجل تبنّي خيارات أقرب إلى الثوريّة.

اقرأ/ي أيضًا:

فرنسا خائفة.. من "البوركيني"!

عن أحجبة الاستهلاك وطبائع الاستملاك