15-أغسطس-2016

غونتر بروس/ النمسا

1

وضعوهُ في المنفى الأخيرِ
ولوّحوا لأشعّةِ الشمسِ الأخيرةِ بالمجارفِ والفؤوسِ
وغادروا القبرَ الغريبَ
كأيّ أغنيةٍ تذوبُ بزحمةِ القاعاتِ
وانتفضَ الغبارُ وراءَ إيقاعِ الخطى
تلكَ الخطى مقياسُ غربتهِ الأخيرةِ
كلما خفَتَتْ علا صوتُ القيامةِ في فضاءِ القبرِ
وارتحلتْ عصافيرُ الحنينِ 
إلى فمِ التنينِ
والينبوعُ أُفرغَ من نداءاتِ
الأمومةِ والأبوةِ والأخوةِ
واستراحتْ ساعةُ العودةْ
من نظرةِ الوردةْ.

2

وضعوهُ في المنفى الأخيرِ
ولم يروا في قبرهِ منديلَ ذاكرةٍ يلوّحُ في المدى
لا لم يروا غيرَ انحرافِ عيونهِ نحوَ الجنوبِ
كأنّ لغزًا ليسَ يعرفُ حلّهُ إلا الغريبُ
وغادروهُ
وسلموا أوراقهُ لمفوّضيّ اللاجئينَ ليغلقوا إضبارتهْ
خلفَ الحنينِ
ويشطبوا اسمًا ترجّلَ من سجلّ المتعبينَ

3

هناكَ في الجسدِ الدفينِ
يشعُّ آخرُ برعمٍ فوقَ الغصونِ
وفجأةً
ملأتْ فضاءَ القبرِ نكهة زهرةِ البابونِجِ البرّيّ
وانتشرَ الصدى
صوتًا حنونْ
قالت له: يا مرحبًا بصديقِ أمطارِ البراري والندى
منْ أنتِ؟
قال لها،
فقالتْ وهي تهمسُ للردى:
أنا زهرةُ البابونِجِ البريّ.
قال: وكيفَ جئتِ وهل لجأتِ إلى القبورِ من البلادِ المتعبة.
قالتْ لهُ: قدْ جئتُ مثلَ اللاجئينَ 
ببذرةٍ عـَلِقَتْ بوحّلٍ فوقَ جوربِ لاجئٍ
قطعَ المسافةَ نحوَ قبركَ
واستعارَ جناحَ حلمكَ
ثمّ جدّلَ عشّهُ بينَ القبورِ المعشبةْ.
هلْ تذكرينَ التلّ والزلّ الطويلَ
ونجمةً
تلقي السلامَ على المصاطبِ
نسمةً 
تزهو برائحةِ المساكبِ؟
لمْ تجبْ شيئًا وقالتْ:
صرتُ أخشى نفحةَ الذكرى
وأخشى من زكامِ الناسِ في وقتِ الحروبِ
فربما أمٌّ أمامَ التلّ تبحثُ عن زهوري
فوقَ لغمٍ 
أو قذيفة ْ
كم تصبحُ الذكرى مخيفةْ!
لكنني أشتاقُ للتلِ الصغيرِ
وللطيورِ
وكفِّ أمّكَ حينَ تمرضُ
والشجيراتِ النحيفة ْ
كم تصبحُ الذكرى شفيفةْ!

4

يا زهرةَ البابونجِ البريّ
أيقظتِ الحياةَ بقبريَ المنسيّ
مثلَ تسرّبِ الضوءِ الصباحيّ الضعيفِ
بحجرةِ السجنِ العنيفةْ.
هلْ أنتِ باقية ٌ
وشاهدةٌ
على مطرٍ 
يزيدُ ملوحةَ التربة.
في تلةِ الغربة ْ
هل أنتِ باقية ٌ
وشاهدة ٌ
على شجرٍ 
سينبتُ غابةً عمياءَ مضطربة.
في ضحكة الغربةْ.
هل أنتِ باقيةٌ
وشاهدةٌ
على قلمٍ
يدوّنُ هذهِ الحقبة ْ
في دفترِ الغربةْ.

5

مرّتْ أمامَ القبرِ شاعرة
وقالت: كانَ جدّي
يجدلُ الأنوارَ في شعري
ويخبرني عن الشعبِ الذي يمشي على سُحُبِ الدموعِ
بأرْجلٍ ريشيّةٍ 
تطأُ السحابَ 
فيلمعُ البرقُ الإلهيّ الحزينُ
وتملأ الغاباتِ صيحاتُ الوحوشِ
أتلكَ يا جدي أساطيرُ السنينْ؟
لا يا ابنتي: تلكَ الأساطيرُ القديمةُ
ترتدي ثوبَ اليقينِ على فضاءاتِ التواصلِ
فادخلي هذا الفضاءَ
لتعرفي كمْ يعرفُ البشريُّ عن آلامِ شعبٍ واقعيٍّ
ثمّ يكذبُ إذْ يقولُ بأنّهُ يحتاجُ وحيًا كي يصدّقَ واقعيّةَ
ما تسجّلهُ الأساطيرُ القديمة في كتابِ الأوّلينَ.
ستكبرينَ
وتكتبينَ 
عن اغترابِ الياسمينْ.
وتلوّنينَ بحدسكِ الشعريّ
مرآةَ الخيالِ
بعشبةٍ خضراءَ
تنبتُ في يدي طفلٍ
يقطّرُ في حليبِ الشوكِ ذاكرةَ السنين.

6

يا زهرةَ البابونجِ البريّ
هذا القبرُ مرآة بكفّ غدٍ
يعلّقها على جدرانِ بيتِ المتعبينَ
فهلْ سأكسرها
لتنكسرَ الحقيقة في رؤايَ
وأتبعَ الوهمَ الثقيلَ
إلى يوتوبيا لا تضيعُ ولا تزولْ
يا ليتني في كلّ ثانيةٍ تدقُّ بواقعي
وهمًا قبيحًا 
أو جميلْ. 

اقرأ/ي أيضًا:

نصوص غير منتظمة

قشٌّ بحري على قدمي آنا كارنيينا