02-أغسطس-2023
الفيل ونملة سليمان

في مقال منشور على موقع "متراس"، وأُعيد نشره على منصة "Substack"، حاول الكاتب الفلسطيني زيد صافي معالجة سؤال دجّت كلماته على الصفحة بالخطّ العريض: هل قتلَ صنّاع المحتوى الصحفيين؟ انطلق فيه من مقارنة دراميّة بين الحياة الوديعة لصنّاع المحتوى، وتلك التي تحوم حولها المصائب في حياة الصحفيين، وممثلًا على ذلك بأنّنا لا نسمع بمقتل "صانع محتوى" لكننا كثيرًا ما نسمع بمقتل الصحفيين. 

ترك المقال تهمة قتل الصحفيين معلّقة برقبة صنّاع المحتوى، وهم أبرياء منها،رغم أن الجاني قابع بين أيدينا، ونمسك به الآن غالبًا، ونحن نقرأ عبره هذا المقال

يقرّ الكاتب بأن السؤال استفزازي، وهو كذلك. لكنّه أيضًا لا يخلو من مغالطة بسيطة، تفترض ضمنيًا أنّه ما دام صانع المحتوى في مأمن من الاغتيال، فهو في ذلك يختلف بشكل أوليّ عن الصحفي، وهذا غير صحيح. فصناع المحتوى يُقتلون ويسجنون ويلاحقون بالجملة كل عام. الفرق البسيط هو أنّه لا أحد يحصي الموتى من فريقهم، إذ لا نادي لهم ولا نقابة، ولا وجود لمؤسسات تدافع عنهم وترصد المضايقات ضدّهم، بخلاف الحال لدى الصحفيين. (انظر هذا التقرير مثلًا). بل قد يجادل البعض بأن الخطورة في أعمال المشاهير أو الساعين وراء الشهرة من بين صنّاع المحتوى تزيد أضعافًا كثيرًا عن عمل الصحفيين: هل سمعت صحفيًا يطلب من زوجته إطلاق الرصاص عليه وهو يحتمي بسترة واقية من الكتب، فقتلته؟ أو آخر ينبتّ للحديث أمام المتابعين على البث المباشر على مدار 24 ساعة، فمات من الإعياء؟ 

يشرح الكاتب عبر عدد من الأمثلة مشكلة اختلاط الصحافة بصناعة المحتوى، وتلاشي الحدود بينهما، ويذكّر بمبادئ الصحافة التي يجري تجاوزها على الرغم من كونها تقليدًا قديمًا وأداة ذات قواعد ومبادئ قارّة، ووظائف ومهام عديدة، لها دور في تطوّر المجتمعات وسعي بعض فئاتها إلى الديمقراطية أو الدفاع عنها، وترسيخ مكانتها كحجرٍ أساس في النضال الحقوقي والسياسي.

غير أنّ المقال ظل يراوح بعيدًا عن السؤال الذي اشتمل عليه العنوان،رغم أهمّيته، وتجاوز ما يلزم من توضيح أساسي لأسباب هذا التخليط الحاصل في الفضاء الرقمي بين الصحافة وصناعة المحتوى، وبين الصحفي والمشهور، ورغبة الأول بالالتحاق في صف الثاني، وبدا لي وكأن المقال ترك تهمة قتل الصحفيين معلّقة برقبة صنّاع المحتوى، وهم أبرياء منها،رغم أن الجاني قابع بين أيدينا، ونمسك به الآن غالبًا، ونحن نقرأ عبره هذا المقال.  

قبل عصر الإنترنت، كان عالم الصحافة قائمًا في ذاته، ضمن نموذج ربحي معروف يعتمد على البيع بهامش من الربح فوق سعر التكلفة، وعلى الدعايات المباشرة، وتتفاضل الصحف والمجلات الصحفية فيما بينها بسمعتها وحجم جمهورها ونوعه. ثم أتى الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وراح الفاصل بين العالمين، أي عالم الصحافة والإنترنت، يذوي حتى كاد ينطمس خلال العقدين الماضيين، ثم التهم أحدهما الآخر حين كبر وتوحّش. وهذا ما سأحاول الحديث عنه هنا، منطلقًا من مقولة أساسية تتعارض مع المقال أعلاه، أو تعود به خطوة إضافية إلى الخلف، وترى أن الذي "قتل" الصحافة وأربك الصحفيين، ليس صنّاع المحتوى، بل مصنَع المحتوى نفسه، والمتمثّل في ثالوث منصات التواصل الكبرى (فيسبوك وتويتر) ومحرك البحث الأضخم (جوجل). 

التقنية تنافس الصحافة، لا تخدمها

في العام 2016، وفي لحظة نادرة من الإرهاص الصائب، دعا ناشط مصري معروف، قبل أن يفقد سيطرته على حالته الذهنيّة وكيانه الداخلي، إلى فضّ الوهم الحالم بشأن دور وسائل التواصل الاجتماعي، وافتراض أنّها يمكن أن تكون أداة للتحرّر والتغيير السياسي والاجتماعي، وقال إنّ الناس في مواجهة أشباح الاستبداد وأشباح شركات التقنية الكبرى، التي لا تتورّع أن تقتات على أي شيء لاستدامة نموذجها الربحيّ وتعظيمه، حتى لو كان ذلك في تناقض مع الصالح العام أو سالبًا لحقوق المستخدمين.

بل إن الحالة اليوم تشي وعلى نحو يتزايد جلاء بأن غايات شركات التقنية الكبرى، لا تتسق مع مصالح الأغلبية من روادها، بل وربما أتت بشكل صارخ ضدّها، ضمن ما تفرضه ممتطلبات "اقتصاد الانتباه"، والسعي الدائم للهيمنة عليه. هذا القطاع الذي ينطلق من وعود مثالية بشأن توفير المعلومات وتنظيمها، يعمل اليوم بطريقة لا ينجم عنها سوى تعميق التشتت الذهني للمستخدمين، وتقويض قدرتهم على معالجة طوفان المعلومات والاستفادة منه، وخلق حالة مستدامة من الوهم بأن الحياة ومعارفها لا تقع إلا ضمن أسوارها. وكما يجادل الباحث الأمريكي جيمس ويليمز* في كتابه الشهير (Stand Out of Our Light) فإن المنصّات، لم تعد أدوات نلجأ إليها طلبًا للمعلومات وبحثًا عنها، بل صارت هي ذاتُها بيئة المعلومات والوجود (الدائم) عليها شرط التعرّض لها والوصول إليها. ضمن هذه الأسوار المغلقة تفتح علينا هذه المنصّات صنابير المعلومات من كل ناحية وصوب، في حرب مفتوحةٍ وغير عادلة ضد قدرتنا على الانتباه وحقنا في التركيز، وفي سعي نحو احتكارهما المطلق لصالحها هي، وهي فقط، بلا شريك ولا حتّى منافس. 

في هذه البيئة ذاتها تنشط حسابات الصحف ووسائل الإعلام ومشاريع الصحافة الرسمية وغير الرسمية. فهذه المنصّات (جوجل، فيسبوك، تويتر) هي القنوات الرئيسية التي يمرّ عبرها المحتوى الصحفي والإخباري إلى المستخدمين، وهي منصّات تتخذ موقفًا واضحًا اليوم في تهميش الأخبار والتضييق على المؤسسات الصانعة لها، يعود في جوهره إلى التنافس الأصلي بين الطرفين على الاستئثار بالجمهور ووقته وانتباهه، وتقدير الحاجة المستمرّة للناس للتعرف على الأخبار والوصول إليها. 

في ورقة بحثية حول أزمة الصحافة في عصر "اقتصاد الانتباه" (Attention Economy)، يعلق الباحث الكولومبي دييغو راميرز على هذا الواقع الجديد الذي يعيشه القطاع الصحفي، ويدعو إلى ضرورة التحوّط عند استخدام مفردات مثل "منصّة"، والتي توحي، زورًا، بأنها مساحة مفتوحة تقف على مسافة واحدة من جميع أشكال المحتوى ومنتجيه، وهو ما يؤكّد الباحث على خلافه؛ فلا هي مساحات محايدة، ولا هي ميدان يدخله من شاء أن يدخل، ضمن محددات متساوية. بل إنها على نقيض ذلك تمامًا، إذ نراها تفرض على الجميع، ولاسيما مؤسسات الأخبار، فروض التبعيّة المجحفة، التي تكفل لها النصيب الأكبر من الأرباح عبر الإعلانات، ويجعلها وحدها القادرة على قحف بيانات المستخدمين الدقيقة وتوظيفها لتعظيم هيمنتها المطلقة في مجال الدعاية، وحرمان مؤسسات الأخبار حتى من الفتات التي ترى نفسها مستحقّة لها، خاصة في مشاريع الصحافة الربحيّة (وهو ما يفسّر الحرب القائمة الآن في دول مثل أستراليا، وكندا، والاتحاد الأوروبي، وبعض الولايات الأمريكية، حيث تتصاعد الدعوات لفرض قوانين تجبر جوجل وفيسبوك وشركات التقنية العملاقة الأخرى على تقديم تعويضات للمؤسسات الإخبارية مقابل المحتوى المعروض فيها. جوجل تبدو متعاونة أكثر، ومستعدة للتفاوض، أما فيسبوك، فالحل لديها بسيط: إن كنتم تخشون على محتواكم وتضنّون عليه أن يعرض على منصتنا بلا مقابل، فسنمنع عرض محتواكم بالمرّة ونحظر صفحاتكم أيضًا).

بحسب راميرز، فإن العلاقة التي تربط شركات التقنية العملاقة مع المؤسسات الإخبارية (الربحيّة) محكومة بتناقضات ثلاثة على الأقل:

  • زيادة الوصول والتفاعل لا يعني زيادة في الإيرادات
  • حتى زيادة الوصول والتفاعل يحتاج إلى صرف وتمويل
  • لا سبيل لمعرفة الجمهور بشكل دقيق إلا عبر الشركات التقنية نفسها، وهو ما يمنح الأخيرة دورًا تحريريًا من نوع ما، يجعل المؤسسات الإخبارية تكيّف محتواها بما يتناسب مع المنصّة وغاياتها الربحية، ووضع ذلك أولًا وفوق كل اعتبار آخر.

في ضوء هذا التناقض الأخير، يدعونا الباحث إلى مراجعة بعض المغالطات السائدة والتي تحوّلت إلى ما يشبه البداهات في القطاع، مثل قولهم "المحتوى هو الملك". فهذه العبارة، ولو أنها صحيحة جزئيًا كما يرى راميرز، إلا أنّها تغفل طبيعة "المملكة" التي يسرح فيها هذا "المحتوى/الملك" ويمرح، ولا تقول شيئًا عن أربابها الحارسين لها، أي شركات التقنية الكبرى التي تحكم السيطرة على قنوات توزيع المحتوى وصمامات وصوله. هذه المملكة هي من تصنع الملوك، أو تبدّلهم. فحين تقرّر "ميتا" مثلًا تهميش نوع أو شكل ما من المحتوى، وتعديل خوارزمياتها لتحقيق ذلك لأنها تراه أفضل لأعمالها، فإنها تقدم على ذلك دون استشارة صنّاع الأخبار ولا اعتبار لمصالحهم، وهذا ما يدفعهم أكثر وأكثر نحو حيّز صناعة المحتوى والتفكير بصناعة الأخبار بعين الوسيط (جوجل وفيسبوك تحديدًا)؛ فهي العين التي ترى ما لا نراه نحن، لأنها تملك البيانات، ومن يملك البيانات يملك كل شيء تقريبًا، وليس ذلك إلا لأنها مادة الإعلانات الخام، النفط الجديد كما يقال. 

هذا يجعل الإجابة على السؤال أعلاه تبدأ من مطرح آخر. فصنّاع المحتوى لا يقتلون الصحفيين، بل منصات نشر المحتوى هي التي علّقت الصحافة على مشنق نموذج ربحيّ جديد لا قبل للمؤسسات الصحفية به، وربطتها معها بعلاقة "سيزيفية" جعلتها رهينة لتقلّبات خوارزمياتها، فلا تنتهي تجربة إلا وتبدأ أخرى، ولا يتم فرض تعديل إلا ويتبعه تعديلات، حتى صار الصحفي ومؤسساته تابعًا راضخًا لشركات احتكارية معدودة، وهو تابع لا يتكلّم، إلا على الصورة التي يفرضها المتبوع، المولع بتدمير التابع وسحق قدرته على المنافسة، أو حتى مقاومة حالة الهيمنة السائدة. 

الإجابة على السؤال أعلاه تبدأ من مطرح آخر. فصنّاع المحتوى لا يقتلون الصحفيين، بل منصات نشر المحتوى هي التي علّقت الصحافة على مشنق نموذج ربحيّ جديد لا قبل للمؤسسات الصحفية به

هكذا يصبح الحلّ الذي ورد في المقال أعلاه، والداعي إلى "العودة إلى أصول المهنة"، والتذكير بمبادئ الصحافة، وطلب أن يكون ولاؤها لمجتمعها، حلّا يبدو وكأنه عبثًا يحاول القفز عن الفيل الذي في الغرفة، رغم أنه فيل  التهم الغرفة بمن فيها من فرط ضخامته أو كاد. فإمّا أن يُنتج المحتوى صحفيًا كان أو غير صحفيّ على الصور التي يرضاها وترضي خوارزمياته، وإلا فإنها لن تمرّ دونه، ولن يراها أحد. ربما تنجو نملة ذكية في الزاوية من السحق الكامل تحت أخفافه، لكنّها لن تقدر، ما دامت في الغرفة، على منافسته ولفت الانتباه إليها، ولو كانت في نملة سليمان في حكمتها وأهمية أخبارها، اللهم إلا لو نمت لها أجنحة وطارت، وعندها ستأكلها العصافير!