01-أغسطس-2023
jä,dv hg^hj

(Getty) مجبرون على رؤية الحياة كقصة نحن أبطالها

نم لثلاث ساعات فقط، اخرج من منزلك واركض في الرابعة فجرًا ثم عد لساعة التمرين واستحمّ بالماء البارد، هذا ما لا يريد منك "الآخرون" فعله، يريدونك ألّا تكون ذاتك، يريدون أن يشكّلوك بحسب أهوائهم ومصالحهم. افعل ذلك، كل يوم، لمدة سنة، وسترى بنفسك كم سلكت من طريق النجاح وأنت تنظر في المرآة وترى انعكاس "نفسك" الجديدة، ولا اعتبار لمديرك الذي يريد تسلُّم الجدول عند الثالثة عصرًا مثلًا.

هذا ما أصبح إما مصدر الإلهام الأسمى لمن يسعون لتعزيز ذكورتهم وفرض أنفسهم في مجتمعٍ متغير مُثقل بـ "الأجندات"، أو مادةً للسخرية من قبل النوع الآخر من دعاة تطوير الذات وباعة الدورات التدريبية عبر الإنترنت، أو "الكورسات". فنصائح النوع الثاني ترتكز على أنشطة ومهارات أكثر "حقيقية" تخدم متعلمها بعيدًا عن الوهم. تعلّم مهارات الذكاء الاصطناعي، اشترِ كورس هندسة الأوامر، تعلّم التسويق الرقمي، لا تتوقف عن سماع البودكاست، وبالطبع.. إياك أن تُغفل بناء علامتك التجارية الشخصية، أو "البيرسونال براندينغ".

يتم إقناعنا بالحاجة إلى ترقية "ذاتنا" بكل جوانبها، بما في ذلك الجوانب التي لم نكن نعلم من قبل أنها بحاجة إلى ترقية. وسيكون الكاسب الأكبر هو أولئك المدربين وباعة الكورسات الذين يشخّصون ويعالجون مخاوفنا من عدم الكفاية

أيًا كان الجانب الذي تتلقى الإلهام منه، فإنك ستُدعى في وقتٍ من الأوقات لا لوضع الخطط، بل لتحديد الأهداف، والتي يجب أن تكون قابلة للقياس ولها جداول زمنية، حتى تتمكن من تتبّع نجاحك. استخدم تطبيقات هاتفك لحفظ ما ستقرأ، وما ستستمع إليه، وما ستدرس، ولعدّ خطواتك وتسجيل إيقاعات نومك، والسعرات التي استهلكتها، لتستطيع تحليل البيانات في نهاية الشهر. استخدم مؤشرات الأداء المفتاحية الآلية في قياس تطوّر "ذاتك" البشرية.

ووفقًا لأولئك الدعاة، يمكن لأي شخص أن يتعلّم كيف يكون أعلى كفاءة وإنتاجية، وأدقّ تركيزًا، وأكثر فاعلية في السعي وراء السعادة والاستقرار، وإن لم يستطع، فهذا على عاتقه.

بنطال الجينز لا يكفي

حاول الكاتبان السويدي كارل سيديرستورم والنيوزلندي آندريه سبايسر فهم المدى الذي سيصل إليه الناس لتحويل أنفسهم إلى كائنات متفوقة، وفحَصَا الأساليب المُتّبعة لذلك بنفسيهما، في كتابهما "السعي البائس نحو تطوير الذات". لقد أصبحا حالات الاختبار الخاصة بهما، وشرعا في برنامج مدته عام يستهدفون فيه منطقة جديدة من الذات لتحسينها كل شهر وفق تعليمات "المدربين المهنيين" المُستقاة من إما من تجاربهم أو من أمهات الكتب في هذا المجال.

كتب سيدرستروم وسبايسر: "في مجتمع استهلاكي، ليس من المفترَض أن نقتني بنطال جينز واحد ثم نشعر بالرضا"، وينطبق الشيء نفسه على تحسين الذات، بحسب اعتقادهما. يتم إقناعنا بالحاجة إلى ترقية "ذاتنا" بكل جوانبها، وكل على حدة، بما في ذلك الجوانب التي لم نكن نعلم من قبل أنها بحاجة إلى ترقية. من ذلك، سيكون الكاسب الأكبر هو أولئك المدربين وباعة الكورسات الذين يشخّصون ويعالجون مخاوفنا من عدم الكفاية، إذ يقدّر سيدرستروم وسبايسر أن صناعة التحسين الذاتي تجني عشرة مليارات دولار سنويًا.

الجانب الآخر من تطوير الذات، بحسب ما وجد سيدرستروم وسبايسر، ليس شعور النقص الذي تغذيه هذه الرحلة باستمرار، بل شعورًا بالاحتيال أو الزيف. يكتب سبيسر في الشهر الأخير من مشروعه "لم أستطع التفكير في عامٍ آخر قضيت فيه جلّ وقتي في القيام بأشياء لم أكن نفسي لأفعلها على الإطلاق." لم يشعر بأنه نسخةً أفضل من نفسه، بل لم يعد يشعر أنه نفسه. ولم يختلف الحال كثيرًا بالنسبة لشريكه سيديرستورم، إذ كتب: "نحن نعيش في عصر الكمال، والكمال هو الفكرة القاتلة. الناس يعانون ويموتون تحت وطأة عذاب الذات الخيالية التي فشلوا في أن يصبحوا عليها".

"يمكننا أن نصبح ما نريد"

لدى الكاتب والصحفي البريطاني ويل ستور تفسيرًا من ثلاثة محاور لكيفية دخولنا في هذا المأزق، فنّدها في كتابه "السيلفي: لماذا أصبحنا مهووسين بها وما الذي تفعله بنا". أولًا، هناك الطبيعة. يكتب: "بسبب الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، فإن إحساسنا بالفردانية والمنظور الذاتي هو الوضع الافتراضي. تُظهر الدراسات أننا مجبرون على رؤية الحياة كقصة نحن أبطالها. في الوقت نفسه، نحن كائنات قبلية، تطورت خلال سنوات الجمع والالتقاط لتقدير التعاون واحترام التسلسل الهرمي.

بعد ذلك تأتي الثقافة السائدة، مسارٌ يشق طريقه منذ عهد الإغريق القدماء، بفكرتهم القائلة بأن البشر مخلوقات عقلانية يجب أن يجاهدوا من أجل تحقيق أعلى إمكاناتهم، إلى بعض الأيديولوجيات الدينية التي تُلقي باللوم على الذات الخطّاءة وتطالبها دومًا بالمزيد من الخلاص، وحتى فرويد ومن تتلمذ في مدرسته، وأخيرًا، الحلم الأمريكي -الذي نشرته العولمة عالميًا- المحفوف بالمخاطر لتحقيق السعادة.

يشبّه البعض في الأوساط الأكاديمية "تطوير الذات" وتقديمها على الآخرين بوضع قناع الأكسجين المعلّق الخاص بك، على متن طائرة تضطرب قبل مساعدة شخص ما على فكّ قناعه

وأخيرًا، هناك الجانب الاقتصادي. إذ يتطلب البقاء في ظل اقتصاد معولم شديد التنافسية، حيث يتمتع العمال بأقل قدرٍ من الحماية ويمكن التخلص من الآلاف منهم في غمضة عينٍ أينما كانوا -وفي موجات التسريح الأخيرة في وادي السيليكون خير مثال- أن نحاول أن نصبح أسرع وأكثر ذكاءً وأكثر إبداعًا لكي نبقى مثيرين لإعجاب صائدي المواهب (صائدي الرؤوس بحسب الكلمة الإنجليزية "Headhunters"، ولا تخفى الدلالات)، ولكي نضمن عودة "عملائنا" الشخصيين.

بعد فترة، يقول ستور في كتابه، أصبحت هذه الاستجابة العقلانية للضغوط الاقتصادية عادة فطرية: "تنبعث النيوليبرالية فينا من العديد من أركان ثقافتنا ونستوعبها مرة أخرى في أنفسنا مثل الإشعاع". وكأننا جميعًا بانتظار مكالمة المنتج التنفيذي من أجل تأدية بطولة الفيلم القادمة، تؤطر وسائل التواصل الاجتماعي العلاقات الإنسانية على أنها منافسة مستمرة على الشعبية والقبول. وفي الوقت نفسه، يستمرّ الآباء بالكذبة المحبّة وحسنة النية قائلين لأطفالهم إنه بإمكانهم أي "يكونوا أي شيء"، الأمر الذي يترك الأطفال يلومون أنفسهم، بدلًا من وحشية السوق، عندما يفشلون في أن يصبحوا "أي شيء" يودّونه.

وقد يكون "تطوير الذات" المستمر أيضًا وسيلة لمحاولة إثبات قيمتك الذاتية. إذ تدرس لورا إمبسون، إحدى زملاء آندريه سبايسر آنف الذكر، الأشخاص الذين يعملون في وظائف تتطلب ضغطًا كبيرًا، مثل محامي الشركات. لقد اكتشفت أن العديد منهم "متفوقون غير واثقين بأنفسم"، وهم أشخاص يعانون من تدني احترام الذات ويحاولون تعويض ذلك عن طريق بذل الكثير من الجهد.

قال سبايسر إن هذا ليس خطأ الفرد فحسب، فنحن نعيش في ثقافة تكون فيها المشاعر الإيجابية هي الأكثر قبولًا، ويتم الإشادة بالأشخاص الأكثر إنتاجية ونجاحًا. لا تُشعر المشاعر السلبية صاحبها وحسب بالسوء، بل إنها تجعل الآخرين غير مرتاحين، نحن مطالبون بجلب الأجواء الإيجابية دومًا، وكما يقولها رامي عياش "أما العالم المتدايقة، أنا لأ مليش في دول".

من يطوّر "ذات" المجتمع؟

من المفارقات أن الكثير من التطوير الشخصي قد يصرف انتباهنا عن معالجة المشكلات الأكبر التي تعزّز في الواقع خروج حيواتنا عن سيطرتنا، مثل انعدام الديموقراطية وزيادة الاستقطاب عالميًا وداخل كل مجموعة كلّما ضاقت الحلقة. وهذا رأي سفيند برينكمان، أستاذ علم النفس في جامعة آلبورج الدنماركية، والذي يجادل بأننا وجدنا أنفسنا في عالمٍ به الكثير من التأمل الذاتي، على حساب المجتمع.

يشبّه البعض في الأوساط الأكاديمية "تطوير الذات" وتقديمها على الآخرين بوضع قناع الأكسجين المعلّق الخاص بك على متن طائرة تضطرب قبل مساعدة شخص ما على فكّ قناعه. ولكن كما أوضح برينكمان في مقابلة مع مجلة GQ من عام 2018، "أود أن أقول إن المشكلة في الوقت الحاضر هي أن الطائرة تهبط، والضغط في مقصورة الهواء ينخفض، والأقنعة تنزل. يرتدي الناس الأقنعة ويساعدون أنفسهم ويتنفسون بشكل محموم في هذه الأقنعة. ثم نسميها 'اليقظة الذهنية' أو 'العلاج النفسي' أو 'المساعدة الذاتية' أو أي شيء آخر. ولا أحد ينهض حقًا من كرسيّه ويحاول أن يرى ما يحدث مع هذه الطائرة".

ومن المفارقات الساخرة أيضًا في "تطوير الذات" المستمر أنه يمكن أن يتطور، إذا ما أصبح منهج حياة، إلى وسيلةً لتجنب المشاعر الصعبة والمعقدة، وصرف الانتباه عن حقيقة كونك شخصًا غير كامل، وسرقة البهجة من الأنشطة الترفيهية التي لا علاقة لها بكوننا "أفضل".

قد تكون هذه المشكلة الجماعية الوحيدة التي تبدأ بحلّ فردي. بكل تأكيد لا نملك جميعًا رفاهية "عدم التطور" أو التوقف عن التعلّم، خصوصًا في مجتمعٍ لا يتعامل بلطف مع أولئك الذين لا يستطيعون المواكبة، لكن يمكن لبعضنا أن يبدأ النظر بـ"محسّنات الذات" غير القابلة للقياس؛ اذهب في نزهة خارجية يوم العطلة، تمشَّ ليلًا في ليلة صافية وفكّر في اتساع الكون، شاهد فيلمًا في السينما أو احضر إحدى الأمسيات الموسيقية التي يحييها فنانون محليون مغمورون، لن يحسنك ذلك بأي طريقة قابلة للقياس. لكن في نهاية المطاف، لا تحتاج الأشياء إلى أن تكون ذات فائدة ملموسة حتى تكون لها قيمة.