07-يوليو-2023
ماسك وزوكربيرغ

بين ليلة وضحاها، رمى الجميع خلافاتهم ونقاشاتهم اللامتناهية. انتهى الجدل حول ما إن كانت فرنسا دولةً استعمارية عنصرية أم أن القادمين من الجنوب هم من لوّثوا نسيجها وقيمها المجتمعية، ولم يعد مصير سلوان موميكا أو المسلمين في السويد ذا صلة، ما يهم الآن هو تنحية كل ذلك جانباً ومشاركة عناوين مقرات إقامتنا الجديدة، وإبداء استعدادنا لاستقبال الضيوف هناك.

طغت على الصفحة الرئيسية لفيسبوك وتويتر صور حسابات المهاجرين إلى "ثريدز"؛ تطبيق مارك زوكربيرغ الجديد، الذي يقتصر على مشاركة النصوص القصيرة التي لا تتجاوز الـ 500 مِحرف، والفيديوهات التي لا تتجاوز مدتها الخمس دقائق، والذي وصفه البعض بـ "قاتل تويتر" الجديد، إن لم يسبقه إيلون ماسك نفسه لفعل ذلك.

طغت على الصفحة الرئيسية لفيسبوك وتويتر صور حسابات المهاجرين إلى "ثريدز"؛

أعاد ما يجري خلال الساعات الماضية ما جرى نهاية العام الماضي، عندما بدأت تخبطات إدارة ماسك تظهر على تويتر، إذ برز اسم "ماستودون"، منصة التواصل اللامركزية القائمة على تكتلات من المستخدمين المُدرجين على سيرفر محدد – بما يشبه مزيجًا بين ريديت وديسكورد – على أنها البديل القادم لتويتر، وهرع الصحفيون والمحللون ينشئون الحسابات هناك ويضعون روابطها في "البيو" داعين المتابعين إلى المتابعة.

وبالفعل، ارتفع عدد المستخدمين الشهري للمنصة حينها من حوالي 500 ألف إلى مليونين ونصف المليون في غضون أربعة أشهر من أغسطس إلى ديسمبر، لكن قلة من أولئك حافظ على حضوره على المنصة، ومن حضر لم يتفاعل، وغدت المنصة اليوم مقصدًا سياحيًا أو دينيًا بعد انتهاء الموسم. وفي فبراير الماضي – آخر إحصائية صادرة عن الشركة – عاد عدد المستخدمين الشهري إلى حوالي 1.4 مليون، والعدد بانخفاض مستمر.

 

فومو ثريدز

 

تجدر الإشارة إلى وجود اختلاف جوهري بين الحالتين على تقاربهما، فماستودون مؤسسة غير ربحية، بينما يقف وراء "ثريدز" عملاقٌ رأسمالي لا يستطيع التوقف عن النمو، لكن ظاهرة الهجرة نحو المكان الجديد الرائع لم تختلف، وكلاهما يصب في ظاهرة الخوف من فوات الشيء، أو "الفومو".

لا يخفي التطبيق الجديد نواياه ولا يقدم نفسه بما ليس هو عليه، فبحسب صفحته الرسمية على متجر آبل للتطبيقات، يسمح تطبيق "التواصل والتدوين المصغّر" لنفسه بالوصول إلى بيانات الصحة واللياقة، والمشتريات، المعلومات المالية، والموقع الجغرافي، ومعلومات الاتصال، وجهات الاتصال، وسجل البحث، وتاريخ التصفح و"معلومات حساسة" أخرى لم يتم تحديدها. والسبب؟ تخصيص الإعلانات بحسب سلوك المستخدم.

إذن لا جديد على الصعيد الخصوصي، كما لا فرادة في التطبيق حتى الآن أو "سكان أصليين"، بل جلّ مستخدميه حتى الآن أخذوا متابعيهم، وصورهم، وأوصافهم في "البيو"، ونُكاتهم نفسها، وتوجهوا إلى ثريدز خوفاً من أن يُتركوا وحيدين على فيسبوك أو إنستاغرام بين 3 مليارات مستخدم، دون إقرار بسبب آخر للتواجد على المنصة الجديدة.

والأمل الوحيد في الظنّ المتداول بأن التطبيق "سيقتل" تويتر يكمن فقط في الإيمان بقدرة ماسك على اتخاذ القرارات الخاطئة؛ فعندما ظهر تيك توك منذ 5 سنوات قيل إنه جاء ليُهدد عرش يوتيوب، وعندما أُضيفت خاصية "الستوري" في إنستاغرام قيل أنها ستقضي على سناب شات، وعندما ظهرت مقاطع يوتيوب القصيرة "شورتس" تكهّن كثيرون بأنها ستنهي سطوة تيك توك. بالطبع، أياً من ذلك لم يحدث، وازدهرت كل منصة بميزاتها ومستخدميها.

وعليه، قفز متوسط استهلاك وسائل التواصل الاجتماعي للفرد من حوالي الساعة والنصف عام 2012 إلى أكثر من ثلاث ساعات اليوم، وانحدر مدى الانتباه إلى الشاشة من 75 ثانية في العام نفسه إلى 8 ثوانٍ، وتحولنا من نشر المحتوى (Content Publication) إلى توزيعه (Content Distribution) خوفًا من أن يفوّت أحد مشاهدته إذا نُشر في مكانٍ واحد، وظفر مدرّبو "بناء العلامة الشخصية" بمواد جديدة يضيفونها إلى تدريباتهم.

يقال إن التوقيت في وادي السيليكون هو كل شيء. قد يكون الأمر مصادفة، لكن إطلاق زوكربيرغ للتطبيق في الوقت الذي يهاجر فيه البعض من تويتر ويستعدون فتاتًا من انتباههم المسلوب فيه واقتناص ذلك الانتباه من بين فكّي إيلون ماسك، بالتزامن مع حديث الثنائي عن عزمهما إقامة نزالٍ في قفص هو خير تجسيد فعلي لطبيعة ذلك النزال المجازي، ويبدو أن زوكربيرغ كسب 30 مليون مصفّق حتى وقت كتابة هذه السطور، ولا أعلم كم سيتضاعف هذا الرقم عند النشر.

زكي وزكية الصناعي

بحثت دراسة نُشرت عام 2021 في دورية "Computers in Human Behavior"، عن الارتباط بين المستوى الفردي للـ "فومو" ووسائل التواصل الاجتماعي، إذ أجرى المؤلفون تحليلًا إحصائيًا يدمج نتائج العديد من الدراسات العلمية المختلفة في ذات الصدد، مع إجمالي عدد مشاركين بلغ 21.473 فردًا. وكانت النتائج واضحة: الأشخاص الذين أظهروا المزيد من "الفومو" أظهروا أيضًا استخدامًا أكثر إشكالية لوسائل التواصل الاجتماعي، وكان نصيبهم من الاكتئاب والقلق والعصاب أعلى من أولئك الذين لا يخشون كثيرًا أن يفوّتوا الأشياء، وهم من لديهم أعلى قدرٍ من الخوف من التقييم السلبي وأدنى مستوى من الانضباط الذاتي.

نوّهت الدراسة إلى أن الترابط لا يقتضي السببية، وما هي إلا دراسة ملاحظة، فلم تقدم بيانًا صارمًا حول ما إذا كان الفومو يسبب استخدامًا أكثر إشكالية لوسائل التواصل أم العكس. فمن ناحية، يمكن الافتراض أن الأشخاص الذين يتمتعون بدرجة عالية من الفومو يترددون على أكبر قدر من منصات التواصل الاجتماعي لئلا يفوتوا ما يحدث في حيوات أصدقائهم.

ومن ناحية أخرى، يمكن للشخص الذي يتحقق باستمرار من خلاصات الوسائط الاجتماعية لأشخاص آخرين أن يطور نوعًا آخر من الفومو عندما يرى أشخاصًا آخرين يقومون بأشياء رائعة في الخارج طوال الوقت، مع تجاهل - لا واع على الأقل - لحقيقة أن الإنجازات الظاهرة على وسائل التواصل تبدو أكثر ألقًا مما هي عليه في الواقع.

لكن بطريقة أو بأخرى، تشير الدراسة إلى أن شعور الفومو لاعبٌ أساسي عندما يتعلق الأمر باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولا يبدو أننا اتخذنا خطوات جادة حتى الآن لتخفيف وطأة هذا الارتباط.

ماذا سنجد على ثريدز؟ لا يملك التطبيق هويةً واضحةً حتى الآن، إذ ما زال يقتصر على منشورات الترحيب وإعادة نشر ما هو منشور على المنصات الأخرى. فإما أن يبقى كذلك ويكون طفرة تُهجر كما حلّ بماستودون وكلوب هاوس وغيرهما، أو يصبح لمرتاديه هويّة خاصة لا نستطيع تفويت تجربة أن نكون عليها، مثلما منحنا تويتر شعور المحلّلين، وحوّلنا لينكد إن إلى رواد أعمال، وجعلنا إنستاغرام سُيّاحًا عالميين وطهاة نهمين.