31-ديسمبر-2015

ريم يسوف/ سوريا

أفكّر فيكِ كما لو أنّني لاعبُ كرة قدمٍ أضاع ركلة جزاءٍ في الوقت بدلًا من الضائع في نهائيات كأس العالم، لكنّني أميل أكثر للتفكير بلاعب منتخب غانا جيان أساموا.

تبدو لي فكرة البكاء عنيفًة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، في السابق بكيت بصدقٍ، كان ذلك في نهائي كأس العالم عام 1994، عندما بكى روبيرتو باجيو، لأنه أضاع ركلة الجزاء. أتذكّر البرازيلي بيليه كيف كان يرتدي ربطة عنقٍ عليها علم الولايات المتحدة الأمريكية، التافهُ كان يبتسم. تطورت اللعبة الأشهر في العالم، وأصبح اللاعبين ممنوعين من ارتداء الأقراط، أو السلاسل، أو الخواتم. وتحوّلت إلى اللعبة الأكثر فشلًا في العالم. لكنّها كانت جيدة قياسًا برجل مافيا قرّر قتل مدافع منتخب كولومبيا أندرياس أسكوبار لأنّه سجل هدفًا في مرمى بلاده عن طريق الخطأ.

في الماضي، كنت لاعب كرة قدم فاشل، وبائع خضار فاشل، وعتّالًا كسولًا في بعض الأحيان، لكنّني كنت ماهرًا في أمور الزعرنة والتلصّص على نساء الحي. وتحديدًا المدام التي كان زوجها سجينًا. تركتُ العمل لدى أحد البقالة في صيف 1998، كان هذا البقّال صهر الراحل مروان شيخو، الذي بكى على شاشات السيرونيكس يوم مات حافظ الأسد، وحُرِمنا وقتها من مشاهدة يورو 2000. 

في تلك الأيام تركت العمل لديه كي لا تفوتني مشاهدة روبيرتو باجيو، لكنه فشل في تصحيح خطأ ركلة الجزاء الضائعة قبل أربع أعوام، وفشلت معه في أن أصبح لاعب كرة قدم محترفٍ في أحد أندية إيطاليا للدرجة الثانية.

أفكّر فيكِ في كلّ ثانية، أفكّر كيف أنّني أحبّكِ بشكلٍ فاشل. أفكّر في أصدقائي في الشتات، لكنّني أفكّر أكثر في أنّني فشلت في أن أحبّك على الشكل الذي ترغبينه أو تريدينه.

حاولت جاهدًا أن أكون لاعبًا ناجحًا، لكنّ جميع محاولاتي كانت فاشلة. في إحدى المرات كتبتُ حجابًا، وذهبت مع أصدقائي إلى الملعب، كان لدينا مباراة مصيرية مع أحد فرق الحارات المجاورة لحارتنا، كُنت مكلّفًا وقتها بحراسة المرمى. وضعت الحجاب إلى يميني، وبدأ مرماي يتلقى الأهداف تباعًا. في ذلك اليوم دخل مرماي ثلاثة عشرة هدفًا، من بينها هدفٌ سجّلته على نفسي، لا يمكنني شرح الأمر، لأنّني حتى اللحظة لا أتقبّل فكرة أن يسجّل حارس مرمى هدفًا في مرماه.

قبل حادثة حراسة المرمى بعام، أو عامين، كانت لدينا مباراةٌ غير مهمة ضد بعض الأصدقاء غير الماهرين في لعبة كرة القدم، للحقيقة كانوا مجموعة واحدة من الأشقاء وأولاد العم من ذات العائلة. في تلك المباراة أُوكلَ لي مركز قلب الهجوم. كانت مهمّتي بسيطة، مثل بساطة أنّكِ جميلةٌ جدًا. قبل أن تبدأ المباراة قال لي محمود زلفو، لا تركض، لا تفعل أيّ شيء، فقط سجل هدفًا كلّما وصلت الكرة إليكْ. لكنّ ما حصل أنّني أضعت ثمانية وأربعين فرصًة محققة، أضعتُ فرصًا كان فيها المرمى خالٍ من أيّ كائنٍ بشري. لم أحزن أو أبكي، كنت مثل اللاعبين الكبار مندهشًا، أبصق بعد كلّ فرصةٍ تضيع. أتمنّى أن يجتاح الكرة الأرضيّة مخلوقاتٌ فضائية لأكون السافل الوحيد الذي يتعاون معها على القتل.

في صيف 2003، ذهبنا إلى "نادي بردى"، أحد أندية الدرجة الثانية، أنا وأنس عثمان، كنا نلقبّه براؤول غونزاليس، هو عالقٌ حاليًا في دولة الإمارات لا يملك إقامًة، أخبرنا الكابتن أبو صطيف، أن نحضر بعد يومين اختبارات اختيار لاعبي فريق الأشبال، فشلت في الاختبار طبعًا، وسجّلت هدفاً في مرمى فريقي من علامة الضربة الركنية، كان هدفًا مضحكًا، الجميع ضحك عّلي، إلّا الكابتن أبو صطيف، أعجبه الهدف وأخبرني أنّ اسمي من بين الأسماء التي تمّ اختيارها، هم فعليًا اختاروا الجميع، لأنّهم لا يملكون جمهورًا أو لاعبين. مرًّة أخرى لا يمكنني شرح الأمر، لأنّني ما زلت متفاجئًا حتى اللحظة من تسجيلي هدفًا بهذه الطريقة المثيرة للقلق.

بعدها بفترة تصالحت مع نفسي، مُقرًّا بأنّي لاعبٌ فاشل، لكنّني لم أتوقّف عن شراء الصحف الرياضية. عندما كنت صغيرًا جدًا، كنت أشتري صحيفتي "الكفاح العربي" و"الشرق" اللبنانيتين، للحصول على وجبةٍ دسمة من أخبار الرياضة، مع أفضليةٍ لصحيفة "الشرق"، لأنّها كانت تنشر صورًا لممثلة البورنو باميلا أندرسون، ما كان يساعدني على ممارسة العادة السرية بطريقةٍ أفضل.
ربما أكون نجحت في أشياء كثيرة مثل أنّني صرت شاعرًا، أو أن أحزن بمرارة كلما خسر أحفاد روبيرتو باجيو بطولًة عالمية، لكنّني أفكر أكثر كيف كنتُ فاشلًا في البكاء عليكِ، أو الصراخ في وجهكِ، ومن ثم صفعك. غالبًا السبب هو أنّني "أحبك بطريقةٍ سيئة".

أقلعتُ عن فكرة أن أكون لاعب كرة قدم محترف، أو مدربًا، مع أنّه تغويني فكرة أن أكون مدربًا ويشتمني الجمهور على تبديلاتي المتهوّرة، وخططي الفاشلة التي تقود الفريق في كلّ مباراة إلى الخسارة. 

في تلك الفترة أصبحت أبيع أفلام البورنو للأصدقاء المقربين، بعتُ الكثير من الأفلام، كانت الأفلام العربية أكثر رواجًا من غيرها، لا أعرف حتى اللحظة لماذا كان الجميع يدفع ثمنًا غاليًا لاقتنائها، رغم أنها كانت تجارة مربحة على أيّ حال. بعدها تعرفت على الشيوعية، إلى أن كرهت جوزيف ستالين، لأنّني قرأت نقلًا عنه في أحد السرديات الماركسية، قوله لولده "أنت فاشل حتى في الانتحار". يقال إن ستالين كان شاعرًا في فترة شبابه، للصراحة.. لا يعنيني ذلك، بقدر ما يعنيني أن "المنتحرون أرستقراطيو الموت".

أن أحبّكِ يعني أنّني أعيش حالة من الترف الأرستقراطي في هذه المدينة البائسة. لا أعرف ماذا أفعل، لكنّني أعرف أنّني أحبّك بشكلٍ بائس، يشبه انفعالات الرأسماليين العاطفية عندما يظنّون أنّهم غاضبون.

كان عامر عقدة يقول لي كلما لعبنا النرد، إنّ الرابحين في لعبة النرد خاسرون عاطفيًا، بينما نجد أنّ الناجحين عاطفيًا خاسرون في لعبة النرد. كان يشتمني لأنّني محظوظ في رمية النرد. اللعين يقيم حاليًا في برلين، رائد وحش سبقه إلى ألمانيا بعد حصوله على منحة من إحدى المؤسسات الثقافية. عروة درويش طار إلى باريس هو الآخر، عبد الواحد الخمرة لحق بركب الأصدقاء المهاجرين إلى القارة العجوز، وعلي فارس حصل على الفيزا الفرنسية منذ أيام، هذا الأخير على الرغم من أنّه شخص موتور. إلا أنّه دائمًا يقول لي أنّني ثرثرة الأصدقاء اليومية التي تتحول إلى كلمات.

لم يبقَ لي أحد غيركِ في هذه المدينة الكئيبة، خسرت في أن أحبّك بالشكل الأمثل، وأتمنى ألا أخسركِ لا قدر الله ذلك. لديّ الكثير من الاضطرابات النفسية التي تحفّزني على غرز السكين في أحد شرايين عنقي، لكنّ فكرة أنّني لم أحبّك بشكلٍ جيد تمنعني من ذلك.

 أفكّر في كتابة أيّ شيء لكِ عبر الآلة الكاتبة، أو أن أُؤلف كتابًا عنكِ من ستٍّ وعشرين جزءًا، والرقم هنا كناية عن رقم قميصي في "نادي بردى". أفكّر في قول الكثير من الأشياء، في رأسي الكثير من النصوص التي أحاول أن أكتبها، لكنّني أفشل في صياغتها على جهاز الكومبيوتر، ولا تغويني فكرة الورق لأنه يجرحنا غدرًا في أغلب الأوقات. أفكّر أن أكتب إليكِ أيّ شيء، لكنّني أخاف أن تكون كتاباتي ضعيفة، أو سيئة، أو أن تقرأي عن طريق الصدفة رسائل هنري ميللر لحبيبته أناييس نن، وتعجبكِ أكثر من أيّ كتابة أخرى. حتى في الكتابة لكِ أخاف الفشل. لديّ الكثير من الأخطاء التي فشلت في تصحيحها، إلا أنّني لن أتوقّف يومًا عن تصحيح فكرة أنّني أحبك كما لو أنّكِ فاجعة.

اقرأ/ي أيضًا:

سمّوني قاتلًا مأجورًا

نار الكتابة وماؤها