30-ديسمبر-2015

أسامة دياب/ فلسطين

1

أرجع من العمل ببنطال كله طين وحذاء تسرب إليه الماء، لكن هذا الطين وهذا الماء في حذائي أكثر دفئًا من سؤال الآخرين عن عمل. كنت في السابق قبل أن أسأل عن عملٍ عند أصدقائي أو في غرف رؤساء التحرير والمحررين ومدراء البرامج في التلفزيون، أكثر حماسة في الكتابة، أخف حذرًا. لم فعلت ذلك، شيء فيَّ انكسر، ما فعلته بالضبط أني أمسكت بالنسر الذي يطير برفقتي، كسرت جناحيه وأرسلته إلى قفص معلق في غرفة لا يصلها أحد. 

يأسي هذا وأنا في البيت أو على الرصيف متبطلًا ومتسكعًا ومطرودًا من قلب العالم، أكثر أناقة من يأسهم، أحلامي لا تشبه أحلامهم، لا يتعبون مثلما أتعب، وقلقهم لا يشبه قلقي. مرة جاءت بنت إلى السوق بفستان مخزوق، جاءت تشحذ ثمن دواء والدها. لن أقول أنني صدقت البنت ولا أني تبعتها حتى البيت، لم أفعل ذلك صراحة، لكني قضيت ثلاثة أيام كاملة وأنا أهذي في القصة. باتت البنت مصدرًا من مصادر الكتابة، صورة ذهنية معلقة في الغرفة برفقة نسرٍ حبسته في غرف الآخرين، دون أن أستطيع تحرير النسر ودون أن أتلمس خيط البنت حين تركتني وحين عادت إلى بيت والدها، بفستانها وخذلانها.

كل يوم أمرن نفسي على ذلك القلق، قلق البنت والنسر الحبيس، أمرنها أن تبقى وحيدة وتكتب أو تحاول أن تكتب وتقول قصة. أصعب ما في الكتابة قتل اليأس، ولكي تقتل اليأس عليك أن تكون بارد الأعصاب، أن تمرن ذائقتك على الإهمال، أن تقيم ليالٍ كاملة ولسنوات في بيوت الآباء، وأنت ترصد مداخلها ومخارجها، ومن ثم تفكر كيف من الممكن لك أن تقتل سيد البيت وتحرر النسر الذي أرسلته إلى ذلك القفص وإلى تلك الغرفة. 

2

لي صديق قتل برصاصة خطأ، كانت الانتفاضة الثانية قد وصلت إلى نهايتها وقتلت أولادها وتزوجت بأكثر من أب. 
قبل أن يقتل صديقي جاء وأخبرني أنه رأى نفسه في المنام يمشي وسط مقبرة، وهو في وسطها تمامًا، جاءته رصاصة من الخلف. في اليوم التالي في محاضرة أخلاقيات إعلامية في جامعة النجاح وصلت رسالة إلى هاتفي النقال هذا نصها: "وحيد مات، رصاصة خاطئة انطلقت من سلاح يعبث به أحد مطاردي الانتفاضة وقتلته".

في المقبرة ونحن نهم بدفنه، رفض وحيد أن يزيح رأسه إلى جهة القبلة، نزلنا إلى القبر وكانت رأسه صخرة لا تتحرك ولا تزيح. قرأت القرآن وأنا في القبر، قرأت القرآن كله وأنا أرجو رأسه أن يزيح إلى القِبلة، لكن القِبلة رفضت أن تستدير وتتعرف إليه.

لا مقاصد لي في سرد القصة، لكن هنا بالتحديد، في هذه اللحظة وأنا في القبر أردت أن أكون كاتبًا، في لحظتها أردت ترك الجنازة وسرداب العزاء وأصدقائي والهروب إلى الكتابة، في الحقيقة أكتب لأشكر وحيد، أكتب لأقول قصة وحيد. 

مرة جاء متأخرًا إلى الجامعة وناسيًا موعد امتحان اللغة الإنجليزية، لما سألته عن السبب، قال: كنت أرصد مداخل بيت أبي لأقتله، ابن الحرام، لا يترك البيت إطلاقًا، لا يتركه ويريد طردي منه. قال ذلك وهو يمسك ديوان "كزهر اللوز" لمحمود درويش. بعدها أخذ يردد قصيدة الجميلات مسحورًا بامرأة يحبها ولا تحبه.

3

لا أقرأ للشعراء الكبار، أقرأ لأصدقائي، من لهم مثل قلقي. تعلمت ذلك مع الوقت، أن أبحث عن نصوص أصدقائي الكتاب في الليل لأقرأها، لأتتبع أخطاءهم. أنا كاتب كسول، أو لست كسولًا إنما أستسلم ليأسي بسرعة، وكلما عرف الناس أني كاتب، يصبح اليأس أكبر وأشد قسوة.

قبل سنة من الآن أجرى والدي عملية استئصال لورم في القولون. القلق لم يكن قبل العملية، كان بعدها، حين كنت أنتظر نتائج العينة التي تحدد انتشار الورم في الجسد من عدمه، هذا القلق يشبه قلق ما بعد وما قبل الكتابة وإن كان أكثر تعقيدًا، لكن والدي حل هذا التعقيد بجملة واحدة.

بعد أن خرج من غرفة العمليات مساءً، بالتحديد حين كان في برزخ التخدير، اقتربت منه إن كان يريد شيئًا، إن كان هناك شيء يتعلق بالعمل ويريد أن يخبرنا إياه. لم يقل شيئًا، لم يكن واعيًا بالأساس ليقول لي أي شيء، لكن ما قاله لي بالضبط: "روح اكتب مثل ما بدك". قال ذلك كأنه يقول لي اذهب إلى برزخك وأتركني في برزخي.

هؤلاء الكتاب الذين في مثل عمري ووالدي أيضًا، هم حيلتي الوحيدة لأواجه هذا القلق وأهزمه، لأبني العالم وأهدمه معهم. أصدقائي، الكاتبات تحديدًا أكثر سخاءً معي، أكثر صدقًا، أكثر تأملًا وأخف صنعة. 

الصنعة بالتحديد هي مقتل الكاتب ويأسه، وما أحتاجه وتحتاجه بالضبط هو التحلل من شروطها، وفيما يكتبونه توافر لكل ذلك، هم بالأساس جاؤوا من ذات الطريق الذي جئت منه، مدفوعين بذات القلق، ذات الخيبات وبأحلام مختلفة.

4

هذا محرج، قرأت قصة لكاتب إنجليزي في إحدى محاضرات اللغة الإنجليزية في الجامعة عن سحر العادة السرية. يومها قلت للمحاضر لأهرب من الحرج، ربما الكاتب يتحدث عن نار الكتابة، عن نار الشعر وأحلى ما في هذه النار أنها تسبب حروقا ليست حقيقية، رغم أن صاحب القصة كان يتحدث عن تجربة حقيقية له.

فعلتها أول مرة تحت دالية عنب، كانت الشاحنة التي من المفروض أن تأتي لحمولة العنب، قد تأخرت، وكنت وحدي في الليل وسط كروم عنب لا متناهية. فعلتها كي أنسى خوفي، كي لا أبكي تأخر الشاحنة. لم أر نارًا، رأيت المدى الليلي أمامي أبيض، صرخت باسم امرأة كنت أحبها، ورأيت نساء يخرجن من حقول العنب في الجنوب ويذهبن إلى حقول الزيتون في وسط فلسطين، ليبحثن عن الغولة أو أبي الجنازير.

هناك بدأ الكاتب يتشكل، في تلك الغرفة، في ذلك الكرم، بحرج أو بدونه، وبرفقة نساء لم أعد أتذكر أشكالهن ولا أوصافهن، استدليت على حواسي، الكتاب الآخرون في الرحلة كانوا مصادر لغة لا أكثر.

اقرأ/ي أيضًا:

عزف منفرد لكونشيرتو الحدود

من أين تأتي الأخبار يوم الجمعة؟