26-يونيو-2023
القارب والغواصة

القارب والغواصة (ألترا صوت)

كثيرًا ما حاول علماء الإحصاء أن يجسدوا لنا بالأرقام التي لا تقبل نقاشًا، الهوّة الكبرى التي تفصل، في مختلف أنحاء العالم، القلّة المحظوظة التي تنعم برغد العيش، عن الأغلبية التي لا يبلغ دخلها اليومي ما يسدّ الرّمق. تمسح هذه الأرقام المجالات جميعها: القطاع الصحي وقطاع التعليم، قضية التغذية وتوفّر الأطعمة الضرورية، توفر المياه الصالحة للشرب... وكل ضروريات الحياة. لكن، رغم وضوح التعبير الرقمي عن أوضاع العالم، فإن تأثيره لا يتجاوز "برودة" الإقناع الرياضي، وغالبًا ما يظلّ عاجزًا عن تمثيل فعلي لهول الفوارق، وخطورة الوضع، ومأساة العالم المعاصر.

لعل هذا ما دفع كثيرًا من رجال الصحافة إلى اللجوء إلى الصورة، الثابتة والمتحركة، لكي يمكّنونا من الإحساس الملموس بالأهوال التي يتعرض لها العالم، والتناقضات التي يعيشها، والفوارق التي تمزّقه. وهكذا فقد تفوّق كثير منهم في تصوير أشكال المجاعة التي تضرب بعض مناطق العالم، ومظاهر الجفاف التي تهددها، والمآسي التي يتعرض لها المُبْحِرون نحو بلدان الشمال..

ما عشناه من نقل لحظي لمحاولات إنقاذ الغواصة المفقودة، أوضح لنا، وبشكل يمزج بين التناقض الصارخ والتناقض الساخر، ما تعرفه البشرية اليوم من أشكال التناقض، وما تحياه من مفارقات

إلاّ أن ما عشناه هذا الأسبوع من نقل لحظي لمحاولات إنقاذ الغواصة المفقودة، والمتابعة العالمية للحدث لحظة بلحظة، أوضح لنا، وبشكل يمزج بين التناقض الصارخ والتناقض الساخر، ما تعرفه البشرية اليوم من أشكال التناقض، وما تحياه من مفارقات. وقد توفّق أحد المدوّنين (وهو فريديريك شالان) في وصف الحدث أحسن توفيق فكتب: "يؤدي بعضهم قرابة 250.000 دولارًا لركوب غواصة حديثة تنزل به إلى قاع البحار، كي يرى بأمّ عينيه حطام سفينة التيتانيك. لكن، يحدث طارئ من الطوارئ، فيتعاطف العالم بأجمعه مع الراكبين، وتقلب الدنيا ولا تقعد، ويهبّ الجميع للنجدة. أما إن أنت هربت من مصائب حرب من الحروب، أو ويلات نظام دكتاتوري، أو مجاعة من المجاعات، وأنفقت كل ما تملك، وركبت قاربًا كيفما اتفق، كي تنجو بحياتك، وحياة أبنائك، فتعبر البحار بأهوالها وعواصفها، فإن حدث ما لا تحمد عقباه، فإنك ستغرق أمام صمت العالم أجمع، بل قد يوجد منهم من سيقول إنك أنت السبب".

لا يعني ذلك إطلاقًا اختيارًا بين إحدى المصيبتين، واعتبار إحداهما أهون من الأخرى. إذ لا فرق بين إنسان وإنسان. وكما قال برغسون، "لو كان في إسعاد البشرية جمعاء قتل إنسان واحد، لما جاز الأمر". لكن ما يحزّ في النفس، هو قياس الأمور بمعيارين متمايزين متفاضلين، واستعداد مبالغ فيه لبذل الجهود المضنية، وصرف الأموال الطّائلة، وتجنيد كل الإمكانيات المتاحة برًّا وجوًّا وبحرًا لإنقاذ عدد ضئيل من البشر لا يتعدى رؤوس الأصابع، وترك الأمور على ما هي عليه بالنسبة إلى عدد مهول من "آخرين"، واعتبار غرق قارب يحمل آلافًا من النساء يحاولن فحسب إنقاذ حيوات أطفالهن، من باب القضايا الجيوسياسية التي تلقي كل دولة بالمسؤولية عنها على كاهل الدولة الأخرى، هذا إن لم تعتبر أنّ "الحارقين" أنفسهم هم الذين أقبلوا على الانتحار، وهم الذين رموا بأبنائهم طعما للأسماك، وفي الوقت ذاته، عدم "محاسبة" رجال مترفين أملى عليهم بذخهم أن ينزلوا إلى قاع البحار بعد أن جابوا أصقاع اليابسة جميعها.