09-يناير-2024
لوحة لـ نبيل عناني/ فلسطين

لوحة لـ نبيل عناني/ فلسطين

 لماذا نغني؟ هل لأننا سعداء أم محبطون؟ هل نتخذ الغناء سبيلًا للتعبير عندما يصبح الكلام ملتبسًا لا يؤدي وظيفته في إدراك المعنى وتحقيق الاتصال بالعالم وبالآخرين؟ هل يحمل عنا الغناء أعباء التفسير؟ أهو ملجأ المتلعثمين والمحاصرين بحبسة الكلام؟ وهل في سياق التجربة البشرية ثمة كلام للعقل وكلام للروح؟ ما الذي يجعل الكلام المنظوم في أغنية ملهمًا وجامعًا ومدرَكًا إلى هذا الحد؟

الغناء يجعل الوطن أغلى، ويأخذ أي قضية نحو عمقها، كما لو أنه ينسدل كستار من الدفء فوق كل المعاني. الغناء هو سر الآلهة الثاني بعد النار، لكنه نار زرقاء تغذي شعلة الأشياء في دواخلنا، وتبقيها متقدة. يظل كلام الأغنيات وهمًا حلوًا إلى أن تتحقق تلك الأوهام، فتصير الأغنيات معجزات، ويصبح الغناء على حق دومًا، وكأنه لم يخطأ يومًا.

تتمثل خطورة الأغنية السياسية "الاحتجاجية" في قدرتها على خلق إسقاط إيحائي يقرب صورة المستبد من صورة المحتل، ويجعل الخلاص من المستبد ضرورة لمواجهة المحتل

لا تخيط الأغاني الجراح لكنها تمد الجرحى بالعزيمة لتحمّل الألم. تجد الأغنيات مكانها في كل تفاصيل حياة البشر؛ يغني الناس في الموت مثلما يغنون وقت الفرح، يغنون لاستمطار السماء ويغنون للسنابل. ترافقهم الأغاني في المعابد، وفي المسارح، وفي الشوارع، وتحضر في أقصى أشكال الحياة بدائية بين أدغال البرازيل، مثلما تحضر في شوارع لندن وحاناتها.

هذه القيمة التعبيرية التي تختزنها الأغاني تظل محل تساؤل دومًا، وتدفعنا نحو محاولة وضعها دائمًا في سياق قضايانا اليومية الصغيرة، في الحب، والامتنان، والشعور بالنعم، وجبر الانكسارات الفردية، وفي شؤوننا الأكثر عمومية، في الحرية والحق، الظلم والعدالة.

تَردُ عبارة جميلة جدًا على لسان الممثل الحائز على جائزة الاوسكار ويل سميث في فيلم "I Am Legend" وهو يتحدث لفتاة اقتحمت حصنه عما فعله المغني الرئيسي في "فرقة البيتلز" بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال، إذ نهض في اليوم التالي واعتلى المسرح ملفوفًا بالضمادات، وخاطب الجمهور قائلًا إنه فكر بالراحة في المستشفى، لكنه أدرك حقيقةً كانبلاج الضوء بعد الظلمة، وهي أن الأشرار في العالم لا يعرفون قيمة الغناء، وأنهم لا يأخذون إجازة، فإن أخذنا نحن إجازة، سوف يبقى المسرح مظلمًا، إذًا كذلك نحن، لن نأخذ إجازة، أضيئوا المسرح. والفيلم يحتفي بالأغنية بوصفها أكثر الأشياء تعبيرًا عن الحياة بعدما اجتاح فيروس العالم وأحال الجميع إلى وحوش فقدت كل إحساس بالآدمية، والغناء هو الفعل الأكثر وضوحًا الذي يعبر عن آدميتنا.

تقودنا هذه المقدمة لمحاولة استكشاف شكل ومضمون الأغنية في حياتنا الاجتماعية المتشابكة بشدة مع الطابع السياسي الحاكم لهذه الطبيعة الاجتماعية في منطقتنا العربية، وبالتحديد في أكثر قضاياها مركزية، وهي القضية الفلسطينية.

لا بد لنا أولًا أن نميّز بين أمرين اثنين، بين الغناء عن فلسطين، وبين الغناء لفلسطين، فهما أمران مختلفان. فالغناء عن فلسطين يتسم بطابع سياسي مدروس يتجنب المخاطرات الوطنية؛ غناءٌ عام يتوخى الحذر في أن يكون غناءً ناقدًا، أو لمّاحًا، ولنختزل كل ذلك بالقول إن الغناء عن فلسطين هو غناء وطني بحدٍ أدنى من السياسة، غير إشكالي، سلس، سهل العبور إلى الوجدان العام، وشعبوي في أحسن حالاته. وهو يدلل بشكله ومضمونه على تكريس موقف النظام الرسمي من القضية، فالنظام الرسمي العربي ينتج الأغنية الوطنية عن فلسطين مع إدراك تام بأنها الأداة المناسبة للمحافظة على وعي جمعي محدد ومحدود لمفردات الصراع السياسي، وأي زيادة في تلك المفردات سوف يجنح بالأغنية نحو المجال السياسي الإشكالي، ويفقدها سمتها الوطنية، ويقرّبها من الفعل الاحتجاجي الفني والمعرفي.

بينما يعاكس الغناء لفلسطين اللغة الرسمية التي تستر خلفها أصابع الأنظمة السياسية، التي ترسم لفلسطين صورة تطهيرية عامة تخرج النظام السياسي من المسؤولية السياسية، وتدخله في المجال الوجداني للقضية في الوقت ذاته، فيقف النظام السياسي من خلال إنتاج الغناء عن فلسطين إلى جانب الشعب في النظر إلى القضية وتبنيها والتعاطف معها. وفي الوقت نفسه، يُعد الغناء عن فلسطين وسيلة مثالية لممارسة التنفيس السياسي، والنضال عن بعد، وصرف النظر عن القضايا الداخلية الملحة والإشكالية، التي هي في الأصل جوهر إشكالية المناصرة الفعلية للقضية الفلسطينية.

يقودنا هذا إلى اعتبار أن الغناء لفلسطين وليس بالنيابة عنها، ينطلق من تفسيرات تخالف رواية الأنظمة، فالأغنية الاحتجاجية ترى أن المناصرة الفعلية وإيجاد حل نهائي وأخلاقي للقضية الفلسطينية، يأتي في الدرجة الأولى عبر مواطن عربي سياسي حر يدرك أن تحرره من الاستبداد السياسي، هو أول خطوة حقيقية نحو فلسطين، وهذا ما يجعل القضية الفلسطينية حاضرة في الأغنية السياسية الاحتجاجية، حتى وإن لم ترد بشكل مباشر.

لكنها حاضرة بالجوهر والهدف الأعلى، فالنبرة الاحتجاجية الموجهة ضد النظام السياسي المحلي، هي محاولة لاستعادة القدرة على الفعل السياسي وبالتالي تفعيل هذه القدرة باتجاه فلسطين، بينما تعمل الأغنية الوطنية الرسمية على مصادرة الفعل السياسي، واختزاله بمظاهر احتجاجية معدة ومنسقة وتنفيسية. على ذلك يمكننا القول إن الأغنية السياسية تعمل ضد الأغنية الوطنية، في محاولة استكشاف مفردات جديدة لتعريف الصراع العربي الإسرائيلي، وعدم الركون والاستسلام للغة الرسمية، التي تعمل على الدوام على تقليص اللغة وتسطيحها في السياق الوطني نحو فلسطين.

تتمثل خطورة الأغنية السياسية "الاحتجاجية" في قدرتها على خلق إسقاط إيحائي يقرب صورة المستبد من صورة المحتل، ويجعل الخلاص من المستبد ضرورة لمواجهة المحتل، وهذا يجيب على السؤال الأزلي حول ملاحقة الفنانين وسجنهم ونفيهم وطردهم في العالم العربي، إذا ماهم حاولوا كسر احتكار اللغة الرسمية التعبيرية المستخدمة في مناصرة فلسطين، لأن كسر هذا الاحتكار يكشف العائد المجدي الذي تتحصل عليه الأنظمة العربية الاستبدادية من خلال نشر وجدانيات يكسب منها المستبد أكثر بكثير مما يضر بالمحتل وسرديته، وبأنها قادرة على إيقاظ وعي مغاير لا يخرج الأنظمة السياسية من المسؤولية الأخلاقية والتاريخية والسياسية تجاه القضية فقط، بل ويسخر في الباطن من هذا العلاج الوجداني الجمعي الممجوج.

على المستوى الجماهيري والعام، بقي الاختلاف التعريفي بين الأغنية السياسية الحية، والأغنية الوطنية الرسمية، مشوشًا وبلا فوارق واضحة سوى بالنسبة لبعض النخب التي كانت تمارس العمل السياسي المعارض. وبالتالي، فهي تدرك جيدًا ألاعيب السلطة وطرقها في توظيف الأغنية الوطنية عن فلسطين لصالحها، لكن ذلك تغير بشكل كبير بعد ثورات الربيع العربي، وسقوط الأنظمة السياسية المستبدة بالمعنى الحرفي والعملي، وسقوط أخرى بالمعنى الشرعي وانحسار فعاليتها.

ومع سقوطها أو فقدانها لشرعيتها، سقطت الأقنعة عن وجوه كثيرة اشتهرت بالغناء عن فلسطين، والتصق بها لسنوات تعبير "الأغنية الملتزمة"، لكنها في اختبار الشعوب انحازت باتجاه الأنظمة، وفقدت مصداقيتها الفنية التي كرستها لفلسطين بأثر رجعي، لأن فلسطين حضرت في ميادين الثورات بصورة مغايرة تمامًا عن تلك التي عممتها الأنظمة السياسية على مدى سنوات طويلة من الصراع العربي – الإسرائيلي، وتبنت الشعوب الثائرة، في الميادين العامة، لغة مختلفة وجديدة، تحمل سمات المناصرة الفعلية، وتؤكد على تشابه الأثر بين المستبد والمحتل.

يظل كلام الأغنيات وهمًا حلوًا إلى أن تتحقق تلك الأوهام، فتصير الأغنيات معجزات، ويصبح الغناء على حق دومًا، وكأنه لم يخطأ يومًا

هذا الإدراك أدى إلى وجود آليات فرز جديدة للتميز بين ما هو سياسي في الأغنية، وبين ما هو وطني. لقد تمسك الإدراك الشعبي، بعد أن كان إدراكًا نخبويًا ضيقًا، بأنه لا وجود للأغنية الوطنية بمعناها الرسمي، فهي تتكأ على الوطن لأداء وظيفة سياسية، وأن الأغنية الوطنية هي أغنية سياسية بامتياز، بل كلما كانت الأغنية سياسية كانت وطنية.

فالغناء لمصر حرة ديمقراطية تعددية هو غناء لفلسطين، والغناء لحرية المعتقلين السوريين هو غناء لفلسطين، والأغنية السياسية اللبنانية المناهضة لسلاح "حزب الله"، هو غناء لفلسطين، وكل غناء لثورة عربية هو غناء لفلسطين، فالزمن لن يعود إلى الوراء، ولن يسمح مرة أخرى بأن يكون الغناء بالنيابة عن فلطسين.