24-أبريل-2023
قلعة براغ

القصر الملكي في قلعة براغ

يُعزى أوّل حديث عن هذه "الغرفة" إلى العالِم العربي ابن الهيثم في "كتاب المناظر". "القمرة"، أو "الغرفة القاتمة" صندوق أسود في إحدى جهاته ثقب شديد الصّغر بحيث تَرسُم الأشعةُ المتسربةُ منه على الجهة المقابلة للثقب صورةً معكوسة مقلوبة عن المنظر الخارجي. إنه جهاز التقاط الصور وإسقاطها على الشاشة، لكنه يمكن أن يُستخدَم أيضا استعارةً على القلب والخداع. لا عجب إذًا أن يوظّف "فلاسفة الارتياب" استعارة "الغرفة المظلمة" هذه في تحديدهم لآليات القلب الأيديولوجي، والتضليل الأخلاقي، والكبت اللاشعوري. هذا التّوظيف هو ما حاولَت الفيلسوفة سارة كوفمان أن ترصده عند هؤلاء الفلاسفة، وأعني ماركس ونيتشه وفرويد.

لم يكن استعمال "الغرفة المظلمة" بدءًا ليُربَط بالمعاني السّلبية من خداع وقلب وضلال. فقد كان هذا الصندوق يُستخدم عند الرسّامين، مثل ليوناردو دافنشي، آلةً لمحاكاة الطبيعة ونقلها نقلًا شفافًا

لم يكن استعمال "الغرفة المظلمة" بدءًا ليُربَط بهذه المعاني السّلبية من خداع وقلب وضلال. فقد كان هذا الصندوق يُستخدم عند الرسّامين، مثل ليوناردو دافنشي، آلةً لمحاكاة الطبيعة ونقلها نقلًا شفافًا، وأخْذِ صورة تتحدى القوانين المعّقدة للمنظورية (Perspectivisme) كي تقرّب الرّسّام ما أمكن من الصّورة الدقيقة لما يريد رسمه. لقد كان كما قيل "عينًا من غير وجهة نظر"، عينًا بريئة. كان علامةً على سلامة الإدراك وشفافية الوعي، وعلى انسجام الإنسان مع العالم المحيط به، وثقته في إدراكه المباشر.

إلاّ أنّ المفهوم سرعان ما اتّخذ معنى مخالفًا عند حلول القرن التاسع عشر الأوروبي، وظهور من سيطلق عليهم الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "فلاسفة الارتياب"، أي أولئك الفلاسفة الذين سيطعنون في تلك الشفافية، وسيتشكّكون في ذلك الانسجام الذي افترضته العهود السابقة، والذين سيكشفون واقعية الأوهام، فيبيّنون "أن نموذج الغرفة المظلمة يقتضي وجود "معطى" لا يعطينا نفسه دومًا إلا مقلوبًا"، وأنّ كلًا منا يحمل صندوقه معه، بل "وأن هناك من الأوضاع، كما يقول ماركس، ما يكون في حاجة إلى أوهام" وخداع وقلب ذهني، وليس مجرد قلب بصري.

سيتّخذ المفهوم إذًا نفحة سلبية، وسيغدو عند صاحبَي مخطوط "الأيديولوجية الألمانية" استعارة على القلب الأيديولوجي الذي يجعل البشر "إذا كانوا يبدون في كل أيديولوجيا مقلوبين على رؤوسهم كما لو كانوا في الغرفة المظلمة، فإن هذه الظاهرة تتولّد عن مجرى تاريخهم الفعلي، مثلما أن قلب الأشياء على شبكية العين يتولّد عن حياتهم الفسيولوجية"، كما سيعني المفهوم عند نيتشه منظورية معمَّمَة، فيصبح لكلٍّ "منظوريته" وغرفته المظلمة، ليؤكد نيتشه أنه "ما من عين بريئة"، وأن كلًّا منا لا يرى العالم إلّا "عبر نظاراته"، وأن ليست هناك عين من غير وجهة نظر، و"أنّ العالم إن كان ملوَّنًا، فنحن ملوّنوه". أما فرويد الذي يستعمل، بالأوْلى، استعارة "الكاميرا"، أعني آلة المصوّرين وليس صندوق الرسامين، فسيحيل المفهوم عنده إلى "غياهب" اللاشعور.

مع هؤلاء إذًا ستغدو "الغرفة المظلمة" صندوقًا عجائبيًا يحجب العلائق الفعلية، ويضع حاجزًا بين الوعي وبين نفسه، بينه وبين العالم. لقد أودع "فلاسفة الارتياب" الإنسان داخل صندوق مظلم "وتركوه، على حدّ تعبير نيتشه، سجين وعي متعجرف موهوم، ثم ألقوا بالمفتاح بعيدًا". فهل له أن يأمل في استعادة المفتاح، أم أنّ ما يتبقى عليه هو أن "يتلصّص"، ويسترق النظر عبر ثقب قفل "غرفة مظلمة"؟