17-أبريل-2023
مسرحية الراهب الأسود لتشيخوف بأداء فرنسي

مسرحية الراهب الأسود لتشيخوف للمخرج كيريل سيريبنيكوف

لطالما كانت خشبة المسرح مكانًا للاحتفاء بالإنسانية، وتظل لغاية اليوم صرحًا محافظًا على أعلى نسبة من التعامل الإنساني فيما لو قورنت بالإنتاج السينمائي والتلفزيوني، وأسباب ذلك كثيرة، ومنها: محدودية عالم المسرح لناحية الحاجة إلى عدد قليل من الممثلين ومخرج وكاتب وبعض التقنيين، كما يمكن إنتاج مسرحية بأبسط التكاليف، ناهيك عن وجود عدد لا بأس منه من المتطوعين الذين عادة ما يكونون طلابًا جامعيين شغوفين أو أصدقاء لصناع العمل المسرحي.

تختلف هذه الحال في السينما لكونها فنًّا نشأ في عصر الرأسمالية وتطور بتطورها، وتأثر بإنتاجات التطور التقني والتكنولوجي في صناعته. كذلك، لأن صناعة السينما تفرض وجود أعداد كبيرة من المتخصصين، ولأن تكاليف إنتاج فيلم واحد تفوق ميزانية كبرى الشركات الصناعية وغيرها. ففي كواليس صناعة السينما ترتفع حدة العنف بفعل ارتفاع حدة المنافسة والرغبة في الحصول على الحظوة والشهرة والمال، وهي عناصر تغيب إلى حد ما عن المسرح. سيما أن العلاقات الإنسانية المبنية ضمن إنتاج عمل مسرحي تختلف جذريًا عن العلاقات الإنسانية التي يتم بناؤها إبان صناعة عمل سينمائي أو تلفزيوني، سواء لناحية العدد، أو لناحية طبيعة هذه العلاقات التي تكون أكثر حميمية وقربًا بين المشتركين في صناعة العمل المسرحي، مقارنة بالعلاقات التنافسية الحادة التي تفرزها كواليس صناعة وإنتاج العمل السينمائي او التلفزيوني.

في المسرح تنتفي الطبقية وما تحمله من تراتبية. هناك ممثلون يشتركون باللحم الحي جميعًا لإنتاج عمل جميل، مع قضاء أوقات جميلة وممتعة وبناء علاقات شخصية مؤنسنة

في المسرح تنتفي الطبقية وما تحمله من تراتبية. هناك ممثلون يشتركون باللحم الحي جميعًا لإنتاج عمل جميل، مع قضاء أوقات جميلة وممتعة وبناء علاقات شخصية مؤنسنة، تفرضها طبيعة العمل المسرحي والأوقات الطويلة التي يقضيها المشتركون في العمل سويًا،  ضمن حيز لا يتم الفصل فيه بين ممثل المسرحية البطل وبين الممثل الثانوي، وبين الكومبارس إن وجد.

في المقابل، نجد هذا التشعب والتعقيد في العمل السينمائي، وهو تعقيد رأسمالي، تستفحل فيه الطبقية والتراتبية والتفاوت بين المشتركين في العمل السينمائي، إن لناحية العلاقات الإنسانية بين الكوادر المختلفة (ممثلين وتقنيين وكومبارس.. إلخ)، أو لناحية التفاوت في الأجر، وما يحققه ممثلو الصف الأول مقارنة بما يحققه كومبارس، أو خريج جامعي جديد تخرج لتوه من معهد الفنون الجميلة ويود البدء بمشواره الفني، أو حالم يريد أن يجرب حظه أمام الكاميرا لما يعتقده من موهبة تكمن عنده.

في العمل السينمائي والتلفزيوني يفصل ممثلو الصف الأول عن الممثلين الثانويين، عن الكومبارس. لكل فئة مكانها ومخصصاتها ووسائل الراحة المؤمنة لها. لكل فئة طعامها. لكل فئة حظوتها لدى صناع العمل. فبينما يجلس ممثلو الصف الأول داخل الأستوديو، أو في مكان مغلق أثناء التصوير والاستراحة، يمكن أن نجد الكومبارس يقفون خارجًا في البرد دون أدنى وسائل الراحة كالطعام والشراب والتدفئة.

شكاوى كثيرة ترد على ألسنة الكومبارس في هذا المجال. ومن تدرج من كونه كومبارسًا إلى ممثل ثانوي إلى ممثل بطل من الصف الأول والثاني والثالث، يمكنه أن يلاحظ طبيعة تغير المعاملة التي حظي بها أثناء تدرجه بين هذه الفئات، ويمكنه أن يلاحظ مدى العنف الذي يختزنه الإنتاج السينمائي والتلفزيوني. هذا العنف الذي هو بالضرورة نتاج تحول الصناعة السينمائية إلى صناعة رأسمالية، لكن الذي يجعل من هذه الصناعة جميلة هو أن الجمهور يرى الخلاصة النهائية لهذه الصناعة، لكنه لا يرى كيف تمت عملية صناعة العمل الفني السينمائي والتلفزيوني، ومدى العنف المعنوي واللفظي الذي تحمله والذي تتكبده شرائح عريضة مساهمة في هذا العمل. وهذا العنف هو بالتحديد ما يجعل من صناعة السينما مجالًا موبوءًا في كواليسها. بينما يضفي، غياب هذا النوع من العنف، على الإنتاج المسرحي، عمقه الإنساني. ففي الإنتاج المسرحي، لا يوجد احتكار من قبل شركات الإنتاج والكاستينغ، لا يوجد استغلال للممثلين من الكومبارس عبر تشغيلهم ساعات عمل طويلة بظروف غير لائقة وبأجور متدنية، ودون أدنى تأمين من المخاطر الحاصلة أثناء التصوير، والأهم بفعل غياب وجود أي رابطة أو نقابة تحمي وتنظم عمل هؤلاء وحقوقهم.

وبحكم التجربة والمعرفة، نستمع ونختبر إلى شكاوى أو أقاويل أو مطالبات، تمت ملاحظتها داخل أماكن التصوير، منها الشكوى من إنخفاض الأجور (علمًا أن شركات الكاستينغ تحصل على مبالغ أكثر مما يحصل عليه ممثل الكومبارس)، وكذلك عدم توفير الطعام والشراب في أماكن التصوير، وإذا وجد فإنه يكون بنوعية أقل مما يتناوله الممثلون الأساسيون، وكما تخصص أماكن محددة لجلوسهم ويمنعون من الاقتراب من الممثلين، لكأنها عملية فصل عنصري أو طبقي، ومع العلم بأهمية عدم تشتيت تركيز الممثل/البطل، إلا أن العملية يمكن أن تتم بشكل أرقى مما تحصل اليوم خلف الكواليس.

شكاوى تتعلق بالنقل، بمدة التصوير، بعدم وجود اتفاقية واضحة تتضمن ساعات العمل والتصوير، بالطلب من الكومبارس تأمين ملابسهم (وكأن الكومبارس لديه خزانة سحرية فيها أشكال وألوان تليق بالعمل الفني المنتج!)، بعدم وجود تأمين في حالة حصول طوارئ تستدعي تغطية تكاليف أي إصابة من ألفها إلى يائها إذا ما تمت أثناء التصوير، خصوصًا بسبب ارتفاع المخاطر التي يتكبدها هؤلاء (القفز من أماكن مرتفعة، الخناقات، قيادة الدراجات والسيارات، إشعال الحرائق، المتفجرات.. إلخ)، وكذلك سوء المعاملة من قبل المنتجين أو المخرجين أو مساعديهم أو من قبل مسؤولي الكاست أو غيرهم من المتخصصين داخل الدائرة الضيقة لصناعة العمل، فغالبًا ما تتم مناداتهم بمصطلح كومبارس دون إشارة إلى أسمائهم (تخرجت من معهد الفنون منذ عام 2006، وفي حياتي كلها لم أسمع شخصًا في المسرح ينادي لشخص آخر بمصطلح غير اسمه الحقيقي، أو اسم الشخصية التي يقوم بتأديتها، حتى ولو كان عامل النظافة داخل المسرح).