16-يناير-2022

عمل فني لـ محمد حافظ/ سوريا

يلاصقنا الموت منذ اللحظة الأولى التي يشق فيها الهواء صدرنا.

يُقبل المرء على الحياة وفي سرّه الخلود.

يظلّ الطفل متوهمًا أن والديه خالدان إلى أن يعيَ أنهما هشّان وليسا كائنين خارقَين.

يُفتح الصندوق الأسود هذا عند اعتلال أحدهما بمرض، أو برحيل الجد أو الجدة. وقد يحدث عندما يبدأ في تلمس نموه، "أنا أكبر، ما الذي يحصل؟".

كلُّ تفتح لجسد المرء صغيرًا يقابله ضمورٌ لذويه. تقفز منه امتدادات التحولات البيولوجية، وتسقط عنهما

حماسته ليصبح كبيرًا تتعاظم وتشغل باله التغيرات والأحلام الوردية التي تتراءى له محقَقة عندما يصل إلى هناك، إلى المستقبل المرتبط بزمن ما، بسن معين. يبقى باله منشغلا طويلًا إلى أن يقوده لبداهة أن التقدم بالعمر ليس امتيازًا يحتكره، فالزمن لا يرانا أفرادًا ولا يراعي أهواءنا في البقاء كما نحن ولا يعطينا حق التبدل والتموّه على نحو حصري. هو يكبر وكذلك حال والديه.

اقرأ/ي أيضًا: آخر النعاة: عندما كان الموت وقورًا

والأحبة أكثر من نداعب المخيلة بحفظهم في قالب من جليد. نثبت صورَهم في غمرة أو ضحكة تعمينا عن معاناتهم، لكنهم الأجمل فيها لأنهم حينها أشعرونا بحب وأمان مطلقَين. نريد لهم أن يبقوا على ما هم عليه، كي نطير إلى ما نهوى ولا همَّ لنا أن نقع.

كلُّ تفتح لجسد المرء صغيرًا يقابله ضمورٌ لذويه. تقفز منه امتدادات التحولات البيولوجية، وتسقط عنهما. سرعان ما يدرك أن الكسب قرينته الخسارة. يعني أن هذا حال والديه أيضًا. إلمامه بشيء من العمليات الحسابية يجعله قادرًا على استدراك ما كان غائبًا عن دائرة أمانه، عندها يسأل ماذا بعد؟

هواجس الوجود وأسئلة الحياة وما بعدها التي لا تنتهي سرعان ما تنغص عليه فرحة العيش.

الموت مدخل إلى الحياة وكسر للبراءة ونزع للغطاء الشفاف المتمايل عند محطات حياتنا. منا من يقف عنده باكرًا ومنا من قد يتأخر في الوصول إليه. ولكن متى حلَّ علينا نصبحُ غيرَ ما كنا عليه.

كما مآسينا تبدو أكثر سلاسة وألطف وقعًا في السينما والشعر مثلًا، هكذا موتنا في مقابل موت أحبائنا. حينما نطرق باب الحديث عن موتنا، نكون قارعناه في بالنا حتى أنهكناه وملَّ منا. فنصلُ الكلام باستسلام رضي وهانئ. أما الأحبة، فحتى لو كنا على موعد مع فراقهم ولم يفجعنا القدر بهم، ولو توسلنا رأفته بهم فإن ذلك يكون مطالبة المغبون والناقم.

هواجس الوجود وأسئلة الحياة وما بعدها التي لا تنتهي سرعان ما تنغص عليه فرحة العيش

فراق الأحبة من دون وداع كان ركنًا من أركان عامَي الوباء الماضيين. ردد كثيرون أنهم لا يريدون احتساب هذين العامين من أعمارهم، لكن هناك من كان له فيهما حبٌّ أو فراق، من كان له فيهما حياة أو موت. وهذه ملكية خاصة، داخلة في بصمات المرء الشخصية، في أثر الكلام ووقع الصمت والابتسامة المفتعلة والانغماس في الأعمال الرتيبة وحتى في السجالات الفكرية الكبرى. لا يريد المرء التفريط بها أو نزعها من رزنامة حياته. لا يريد استئصال هذا الورم. وهذا ليس بالضرورة أن يخالف ما بات ركنًا راسخًا من مقاربات التعافي من الفقد، ومن مراحله الخمسة كما سطَّرتها الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر-روس التي كرست دراساتها عن الاقتراب من الموت. لكن القبول، وهو المرحلة الخامسة والذي لا يعني التخلي عن الحزن إنما التعايش معه وفق كوبلر-روس، غالبًا ما يحمل في طياته التعايش مع المراحل الأربعة السابقة وهي الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب. تتخفى. تتلطى في سلوكياتنا، مجتمعة أو كل على حدة، باختلاف التفاعلات ومراحلها، في الحيزين الواقعي والافتراضي.

اقرأ/ي أيضًا: متحف الموت

لا تجري الأمور دائمًا وفق الخط البياني بالترتيب. وليس صائبًا إلى حد كبير الظنُّ أننا في حافلة ينادي سائقها على المحطة التالية، وأن بقاءه عند كل محطة محدد بوقت معين يجب أن يقضيه قبل أن يجوز له مواصلة سيره مستعدًا للمحطة التالية، مزودًا بالطاقة النفسية والذهنية الواجبة لقضاء هذه الرحلة بسلام، وهي أن يعود للمجتمع كما كان قبل الفقد.

وهنا، ربما تبدو مقاربة الكاتبة الأمريكية جوان ديديون، التي توفيت في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أقرب لما يلاحظ في أيامنا هذه. ديديون التي خسرت زوجها وابنتها على التوالي خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا، رأت أن "الحزن لا مسافة له ويأتي على شكل موجات ونوبات ومخاوف مفاجئة توهن الركبتين وتعمي العيون وتمحو وداعة الحياة".

وهذا يبدو أسلم. فالشوق كفيل في أن يقَلِّب الروح والجسد بين صفحات الإنكار والرغبة في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والنقمة والاندفاعة لإنزال عقاب ما، بين الذنب والشعور بالاستهداف، بين التواضع واستمالة النفس لإقامة مقارنات مع من أصابه الفقد ودارى جرحه النازف بقوة عن محيطه. رصد هذه التقلبات قد يظهر أنها متبدلة خلال اليوم الواحد، متنقلة بين الأسابيع والفصول. يبقى الفاقد المشتاق على الحافة، يسقط ثم يتحايل على النهوض قبل أن يسقط مجددًا. بعد أن نلجأ للبوح، والندب والتسليم، يبقى لنا الغضب قوة تنشلنا من الانزلاق إلى دائرة لا معنى. وليس في هذا تصالح مع الموت ولا تقبلٌ للفقد.

وهذا التداخل في الحالات والأمزجة أكثر تعقيدًا الآن من قبل حينما كان الصمت متاحًا، وكل الأبعاد المكانية والزمانية والوجدانية مفتوحة لإحياء طقوس الموت والفقد. أما الآن في غياب الوداع كفعل، في وقت لم يعد ممكنا للمرء فيه أن يتلهى عن الفاجعة بمتابعة واجبات التحضير للمراسم، صار عليه إما الانزواء تمامًا أو العودة السريعة إلى ركب الحياة بوتيرتها اللاهثة. لا وقت للحداد. لا يهم في أية مدينة أنت. الأحياز كلها محتلة. وكأن الاجتماع واحد.

الموت مدخل إلى الحياة وكسر للبراءة ونزع للغطاء الشفاف المتمايل عند محطات حياتنا. منا من يقف عنده باكرًا ومنا من قد يتأخر في الوصول إليه

حتى حضورك على وسائل التواصل الاجتماعي عليه أن يكون مخففًا من الدراما، ويقتضي منك التحول في أقرب وقت ممكن للتفاعل الناثر إعجابًا وبهجة وسرورًا على منشورات الأصدقاء. إن لم تكن نقلتك سريعة إلى الوجوه الضاحكة فهذا يعني أنك عالق، أنك تصارع، أنك لا زلت متشبثًا بفقدك وأضعف من أن تستأنف هذه الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: مقاومة الموت

لكنك، وإن جاريت سواء في الحيز الواقعي أو الافتراضي، تمامًا كمن يبالغ في الندب لمحاكاة التوقعات المجتمعية، فأنت لا تريد أن تتخلى عن ذاتك وتريد الحفاظ على فقدك وهذا الجزء من نفسك، أن تبقي كلَّك متماسكًا بما تيسر لك. فتعود إلى الحزن والغضب، هما ما تعرف. العطب هو ما بات ملكك للحفاظ على نفسك وعلى ما لك.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عن الأماكن وبروتكولات الفقد

المكان بلا جهاته