24-ديسمبر-2015

سوق مدحت باشا في دمشق، 1920

لأنه لا نساء في حياتي، فقد ربّاني الرجال، وعندما يربيك الرجال يعلمونك أن تقلّد الريح وتغادر الشجر، وأن تلبس الرحيل كأنه جلد ثانٍ، وتتخفف من الذكريات فتودعها عارية من النوستالجيا في أدراج الأصدقاء، وتتندر من الغارقين في الحنين وهم يجففون ملوحة أرواحهم التي بكوها وأعادوا بكاءها، إلى أن تقددت كمؤن الشتاء. 

عندما يربيك الرجال، تهرب كشجاع أصيل من اليوم الثاني لشهريار كي لا تخرّب الحكاية

عندما يربيك الرجال، ويكتب الشعراء عن الحب، فلن يكون صعبًا اعتناق أشعار درويش، وتبني احتفائه بأوّل الحب، لأنك عندها ستقدره كرجل، وترفع كأسه ضد ابتذال بقاء الأحبة معًا إلى أن ينتهي العمر. عندما يربيك الرجال، تهرب كشجاع أصيل من اليوم الثاني لشهريار كي لا تخرّب الحكاية، فتحكي عن الحادثة، تلك التي وقعت، وتنسى من مات.

تربيت كرجل، لُقنت بروتوكولات الفقد، وهزئت بالحنين، تركت الشام دون أن أحمل منها ولو ذرة غبار في صدري، أو سواد إسفلت على حذائي الجديد، لم آسف لأني لم أشمّ ياسمينها المخلوط برائحة بردى الآسنة، تعلمت أن حصتي منها هي حصص صوتية، حصص الخفاء والأسرار للمدن التي تكره الإفصاح، وتعبد وشوشات الأبواب والأيدي المتشابكة للعشاق الهواة، تعيش زمنها بين طرطقات ملاعق الغداء عند الثانية تمامًا، ورعشات الصمت التي تضرب عامودك الفقري في "بيت الدرج" للأبنية العالية، وأنت تُرمى في خرمشات ملابس حبيبك الشتائية، وفي لهفة القبل العمياء في بيوت المصاعد وعنين موتوراتها الجهنمي. وهسهسة التراب في الطرقات المهجورة في برد الساعة الخامسة مساء، فمن لم يزر الشام في الشتاء، من لم يمش في طرقات مسفلتة بالريح، لن يعي أن عزلة الساعة الخامسة مساء لن يضاهيها رعباً سوى فحيح الأوراق التي تسقط  كمخالب تحفر في بداية كل ليل قبورًا للساعات المنقضية في فعل اللاشيء.

تركت الشام دون ندم، دون صورة فوتوغرافية لتثبيت الوجه أو اقتناص الحنين، حملت منها ضحكتي الزاعقة، كي ألهي عنصر الأمن عن الرعب في صوتي، عندما اقتحم البيت وسألني عن اسمي، وخفت أن أخطأ به. حملت منها فضاء من الأصوات، من خرمشات أظافري على زجاج تابوت حمل جثة أبي المبردة، فقد مات أبي مرة، وتركتْ لي مقلس، قرية الدمى تلك، رنين جرس كنيستها، ممزوجًا بصوت "غُرابيّ" للخوري إلياس وهو "يجنّز" الأستاذ إبراهيم، أبي مثل نبي بلا أتباع.

سأغادر حتى الذكريات لأني لم أصدقها، كانت بيتي المستعار، فكل ما فيها متحول بحسب الرواة

في مسرح العبث ذاك، وفوق جثمانه، حفّت أصوات المناديل الورقية على خدي ولم أنزف، في ذاك العزاء همهم الخوري إلياس أيضًا، نعق، شخر. في مقلس يهمهم الخوري إلياس دائمًا، وهو يطالب "بالبيدرية"، وبأجره عند عيادة المرضى، يهمهم وهو يلعب الورق في أيام الأعياد، طاويًا ملابس كهنوته تحته وهو "يتربع"، طالبًا من اللاعبين "فت البرتية" مع عدم الكفر "يا شباب". محملة بالأصوات. سأرحل مجددًا، تاركة ورائي بيوتًا بأثاثها وملابس وألوان كثيرة للبحر، وتدرجات للدفء على كتفي، وطعمات لمياه لن تقسو بملوحتها ولا بانهمار مطرها على قلبي المثقل بالرحيل المجاني.

سأرحل إلى بلد آخر، ومدينة تاسعة ربما، أو عاشرة، سأرحل دون وجع ولا استغراب، ولا حتى انهماك بنسج شعور ما، كاذب يليق بالبلاد التي أتركها ورائي، يليق بستائري الانتقائية وغرفة نومي، والمكتبة، وأجساد غامرة لكل من أحببت، سأغادر الأمكنة تلو الأخرى بوجه ملفق بجلال بهلواني، كوجه سبعينيّ متوقع التجاعيد، بملابس خارج زمنها، تضيق على المخيلة والشغف للجسد المتعب لرجل أو امرأة، عندما نسيا تعابيرهما ومن يكونا فعلًا، سأغادر بـ"حال" يبحث عن إله صوفي تخلى عن دراويشه ونام في الغناء، لأنه أمتع من التوق، سأرحل بحقائب لا تحمل إلا أناي الخاوية، المترنحة بالصمت. 

سأغادر بكذب يطالبني به الأدب، وتصنعه الرواية، سأغادر بلا أصالة الرحيل، ولا بناء لائق للفقد، سأغادر حتى الذكريات لأني لم أصدقها، كانت بيتي المستعار، فكل ما فيها متحول بحسب الرواة، حتى وجه أمي الذي سقط على الطريق، ضاع مني، عندما أخفى أبي صورها خوفًا من مطالبة صغاره اليتامى بوجه الجميلة الميتة منذ صباها القريب، فجمعتها نتف من أحاديث العجائز الخرفين، ومن صوتها المسجل على كاسيت معلوك، وهي تخبر خالي جوزيف "أخي صار عندي بنت اسمها عبير، كثير ذكية" هذا ما بقي لي من أمي، وما سيبقى لي من الشام ومن العائلة، فضاء لن يغزوه أحد، فيه الحكاية مزروعة بالصمت.

اقرأ/ي أيضًا:

وحدهم الغرباء من يكسرون رتابة الأمكنة

كلما هممت بالصعود إلى مترو الخيالات في باريس