12-أغسطس-2018

يزيد خلوفي/ الجزائر

أين تكمن خطورة التحليل النفسي؟ تاريخيًا، كان ظهور التحليل النفسي على يد الطبيب النمساوي سيغموند فرويد بمثابة استحداث جرح عميق في الذات الإنسانية؛ فبعد قرون من الاعتقاد بأنّ الذات واعية بذاتها، يتكسّر هذا الوهم الأنطولوجي، لتتكشّف مع فرويد تلك المساحات المجهولة غير المكتشفة داخل الذات، والتي أطلق عليها اسم اللاشعور.

أرجع فرويد الثقافة إلى النشاط العصابي، كما أرجع الدين إلى نوع من الهذيان الجمعي الذي اختلقته المخيلات الشعبية القديمة جدًا

أرجع فرويد الثقافة إلى النشاط العصابي، كما أرجع الدين إلى نوع من الهذيان الجمعي الذي اختلقته المخيلات الشعبية القديمة جدًا. وبالنسبة للنشاط الثقافي، في شقيه الأدبي والفني، فقد ألّف فرويد الكثير من المؤلفات التي حلّل فيها الظواهر الفنية والأدبية، من خلال تفسيرها على ضوء تجارب الطفولة الأولى، أو باعتبارها تعبّر عن آليات تحويل رغبات مقموعة إلى منظومة من الرموز.

اقرأ/ي أيضًا: عزاء لفرويد

في مقاله "الشاعر والخيال"، وفي مقال آخر بعنوان "رواية عائلة العصابيين"؛ حلّل فرويد الخيال داخل التجربة الإبداعية من خلال ربط هذا العامل بالدوافع الخفية في نفس المبدع، فعوالم المبدع الداخلية محمية بالأسرار، يجسدها من خلال الأساطير والخرافات والحكايات، حيث إنّ بعضها انتقل إليه من الفنتازيا الجمعية.

إنّ الثقافة، وبشكل عام، ومن خلال التحليل الفرويدي، هي ناجمة عن هذا التوتر بين سلطة الخفاء والذي يجسده المكبوت الجماعي في شكل أساطير وأوهام جماعية، وبين سلطة التجلي. مثل الأوهام التي تختلقها المجتمعات عن نفسها، كأن تشيد وجودها على سرديات الأصل أو الخلاص.

 في هذا السياق، يمكن الاستفادة من التحليل الذي أنجزه فرويد حول أعمال ليوناردو دافنشي، فهذا الأخير تمكّن من اختراع ذكريات طفولته، حيث أصبحت بالنسبة له حوادث وقعت فعلًا، ويذكر منها مشهدًا من طفولته المبكرة جدًا، يشبه إلى حد ما مشهدًا سورياليًا غريبًا وغامضًا جدًا، وهو أنّ نسرًا وقف فوق مهده ومسح على وجه دافنشي الرضيع بذيله. قصة دافنشي ستساعدنا إلى حد ما في فهم آلية اختراع ماضي وهمي، والغرض منه هو تعويض نقص ما، أو تصحيح صورة مشوهة عن الذات، يجب طمسها بأي ثمن. إنّ وظيفة الثقافة هو إشباع حاجة المجتمعات إلى الوهم، لهذا فالفن الذي هو أحد الأركان الأساسية للثقافة، وعلى غرار الدين، يلعب هذا الدور التعويضي.

لهذا، يقول فرويد بأنّ السعداء لا يمكن لهم أن يتخيلوا، بل وحدهم التعساء من يتخيل. فالتعاسة والكآبة هي أكبر محرّكات ومنشطات الخيال.

الإبداع ككل هو توتر ناجم عن حالة عدم رضا داخلي، يعبر فيه الفنان عن رغباته في تحقيق أمنيات مقموعة، أو تعويض عن واقع غير محقق، أو قد يكون محاولة لتصويب حقيقة مرفوضة.

وقد نذهب بالتحليل إلى أبعد من ذلك، فقد تلعب الثقافة في ظل مجتمع مقموع، إلى المساهمة في تشويه الحقيقة، عبر آلية التحويل، أي تحويل الواقع الناقص إلى واقع بطولي، تعزز في الجماعة ذلك الإحساس بالاكتمال. كل مجتمع في حاجة إلى أساطير لتحويل واقعه البائس إلى واقع مقبول، أو الركون إلى نوع من السلام النفسي.

لماذا يخاف بعض المثقفين من التحليل النفسي؟

لأنّ التحليل النفسي يدمّر النبالة الأخلاقية في أي نشاط فني أو أدبي، ويكشف عن وهم الطهارة الداخلية في نفسية المبدعين.

ومن جهة أخرى قد يتوهم المبدع، أيا كان، بأنه منسجم مع أفكاره ومشاعره، وبأنه يعيش التماسك الداخلي، في حين يرى فرويد بأنّ صراع الشخصيات التخييلية في الروايات مثلًا هو تجسيد للتشظي الذي يعانيه الروائي. بل يذهب إلى أنّ الأدب هو أكبر من كشف عن الأمراض الإنسانية. من هذا سنفهم، في المقابل، لماذا أنّ العمل الإبداعي هو بمثابة مهدئ لبعض التوترات التي تصيب نفسية المبدع، ونفسية الجماهير التي تتلقى أعماله الإبداعية. فحتى هذه الأخيرة تتطهر من فائض انفعالاتها، وتلبي رغباتها المقموعة.

فمن أهم اكتشافات فرويد هي تأثير الحياة الجنسية في تطوّر التصورات الثقافية، بل أنّ النوازع الليبيدية هي محركات ومنشطات للخيال، ويذهب أبعد من ذلك، إلى القول بأنّ الثقافة هي نتاج صدام بين مبدئي اللذة والواقع.

فإذا كان الواقع، بعاداته وتقاليده ومنظوماته الأخلاقية، التي هي منظومات رقابية صارمة، يقمع هذه الحياة الجنسية، فإنّ الثقافة، بما في ذلك كل التعبيرات الرمزية، تخترع لنفسها لغة رمزية لأجل للتحايل على مبدأ الواقع، وتحقيق تلك الرغبات الجنسية ولو على شكل استيهامات مثل تلك التي تقع في الأحلام.

ينبهنا فرويد إلى أنّ آليات اشتغال العمل الفني، هي نفسها الآليات التي تشتغل بها أحلام اليقظة، لهذا فإنّ الشاعر – على سبيل المثال – يوصف بالحالم في وضح النهار. فكما تتسلل الرغبات المكبوتة على شكل أحلام في الليل، تجد نفس الطريق إلى داخل الأعمال الفنية والأدبية.

كيف يمكن تشخيص بعض أمراض المثقفين؟

هناك نص مهم لفرويد، أقتطف منه هذه الفقرة، وعلى ضوئها سأحاول أن أجيب عن هذا السؤال. "يعدّ انفصال الفرد البالغ عن سلطة الوالدين أحد الإنجازات الضرورية، لكن المؤلمة أيضًا، فمن المهم أن يتم هذا الانفصال عن والديه بدرجة معينة. بل إنّ تقدّم المجتمع يقوم أصلًا على التناقض القائم بين هذين الجيلين، وهناك من ناحية أخرى طائفة من مرضى العصاب يرون في وضعهم إخفاقا في إنجاز هذه المهمة".

نلاحظ من خلال هذا النص بأنّ العصابي هو الشخص الذي عجز عن الانفصال عن والديه، إذ أنّ الانفصال يعني الشعور بالعجز، وبالقهر، وبنقص الثقة في النفس. وفي المقابل، فإنّ أكبر الإنجازات التي يمكن أن يقوم بها هذا الفرد هي تحقيق هذا الانفصال، مع العلم أنّ ذلك لا يخلو من وقوع الصدام.

الثقافة في أي مجتمع تنتج وفق آلية الصدام بين الأجيال، وبين الأصوات الثقافية المختلفة، وبين الأشكال الثقافية، واحدة تنتمي إلى المؤسسة، والأخرى تحمل روح التجديد والتمرد على نفس المؤسسة. المثقف الحداثي هو مثقف صدامي ضد الأب الرمزي، لهذا لا حداثة دون جريمة قتل الأب.

لكن في ظل سياقنا الثقافي، فالأبناء عاجزون عن الانفصال عن الأب، بل يعانون من الوهن دون مؤسسة ترعاهم، فإذا غابت المشاريع المؤسساتية يسقط المثقفون في نوع من الحسرة والكآبة.

شكوى بعض المثقفين من إقصائهم من بعض التظاهرات الثقافية والمهرجانات التي تقيمها مؤسسات الدولة، بكونها إحساسًا مريرًا بأنهم أبناء غير مرغوب فيهم

ينبغي أن نقرأ شكوى بعض المثقفين من إقصائهم من بعض التظاهرات الثقافية والمهرجانات التي تقيمها مؤسسات الدولة، بكونها إحساسًا مريرًا بأنهم أبناء غير مرغوب فيهم.

اقرأ/ي أيضًا: علم النفس.. تأسيس إسلامي

من منظور التحليل النفسي، فإنّ الهياج الثقافي الذي يحدث بسبب إهمال المؤسسة الثقافية لهم هو بمثابة حالة عصابية ناجمة عن إخفاقهم في مهمة الانفصال عن الأب/ المؤسسة. في هذه الحالة، يستسلم البعض للغة عنيفة. إنهم عاجزون عن الفعل الثقافي خارج هبة المؤسسة.

يمكن أن نذهب بالتحليل أعمق من ذلك، ونربط الفعل الثقافي بالمنافسة الجنسية للابن على الظفر بحب الأم. فالثقافة عندنا ذات جوهر أوديبي، لأنّ ما يبحث عنه المثقف هو المنافسة على المنافع المادية، التي هي بديل للمنافسة على الملذات الجنسية بتعبير فرويد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

في بؤس مثقف الفقاعة

آلان دو بوتون في "قلق السعي إلى المكانة": كن مستقلًا وحسب