06-يوليو-2016

تمام عزام/ سوريا

لم يصدمني ت. س. إليوت بأرضه الخراب فحسب، ولا بالعالم المقزز الذي خلفته الحرب العالمية الأولى، ولا بمقدرته على صياغة الألم ليصير دمامل على جلد القارئ في لحظة انعتاقه من القراءة؛ إليوت صدمني باللعنة التي يكررها العالم اليوم، وبالأحرى ما يحصل في الوطن سوريا، وبأجيالها.

 يئن جيل على السكاكين المثلمة ورايات التوحيد التي تهب في كل الجهات

الأرض اليباب كما تقول ويكيبيديا: "تُعبر عن خيبة أمل جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى وقرفِهِ أو تَقزٌزه، وتصور عالمًا مثقّلًا بالمخاوف والذّعر والشهوات العقيمة. عالمًا ينتظر إشارة ما تؤذن بالخلاص أو تعدُ به".

اقرأ/ي أيضًا: "مسرح القوس" في الجزائر.. الأسرة البديلة

في محاولة لاستقراء أحوال جيل ما بعد النار السورية ستجد الصدمة مكانها إلى قلبك، فالحرب بكل قذاراتها خلفّت أجيالًا متناثرة بلا موروث أخلافي ووطني، والقطعان التي تسوقها النداءات الطائفية ودعوات الانتقام تذهب بهم إلى الموت من أجل مقدس تحنط، وحجارة لا تعيدها القبلات والتمسح إلى الحياة، ولا منابر من خشب أكله السوس ونحر قلبها العفن ستعيدها إلى صندلها دموع العباءات السوداء والأكف التي تلطم الوجوه.

بالمقابل يئن جيل على السكاكين المثلمة، ورايات التوحيد التي تهب في كل الجهات، لا بد للرمل من ابتلاعها في رحلة الوصل الماضوي، والدفاع عن رجالات السقيفة المتحاربين على كرسي الشعرة أو سواها، أموية كانت أم عباسية حمراء.

"الأرض اليباب" كما يصفها النقاد مراوحة بين النبوءة والسخرية، فمن أجل أي ميعاد تسن السيوف في الشام الكبرى، والتي لم يبق فيها مكان لدفن الذكريات، ولا لاستعادتها، وهنا في أقصاها يدفع العالم كل قوته لدمار الأحياء والأموات، ولكل رايته وثأره وعويله.

"الأرض اليباب" قصيدة تقتبس ثقافاتٍ وإشاراتٍ أدبية متعددة وملتبسة

"الأرض اليباب" قصيدة "تقتبس ثقافاتٍ متعددة وإشاراتٍ أدبية متعددة وملتبسة"، وهنا يمر العالم في الشام على يديه زاحفًا كخرافته المستحيلة، يتصارع الكل على إنجاز طغيانه المقدس من أجل راية السوء، هنا يلتقي الأعداء على فريستهم، والأصدقاء على بقايا الجثث، وأما الأخوة الأشقاء فيرتجفون من موت ينتظرهم.

اقرأ/ي أيضًا: نجوم مثقوبة

"سأريك الخوف في قبضة غبار" أقسى عبارات إليوت وأصدقها، في الشام ستحمل وردتك إلى قبرك، وستسأل عمن كانوا هنا ثم صاروا غبارًا من شدة الهلع، بيوت كانت هنا، وبشر مروا على هذه الشوارع مذعورين من صوت الموت الطائر، وفقراء تحولوا ببأس السلاح إلى جلادين، ومثقفون لبسوا العمائم بعدما كفروا بكتب الحرية، وعسكر تناثروا على الجبهات محدقين بما تبقى من حياة يرونها طلقة... وهنا في الشام أقرأ ما بقي من لهاث أمّ تيبست دعواتها بين السماء والأرض، ربما اللعنة  حلت دون استئذان حليب ثدييها.

لا ألم يعلو فوق هذا الخراب سوى شاهدة قبر واحدة بقيت، كتب عليها بفرشاة دهان: هنا يقبع العالم السافل.

اقرأ/ي أيضًا:

عباس كياروستامي وأبو اسكندر أيضًا

قمرٌ في ليالي الغجر