تبدأ دعوة الحب في كتاب "ألف ليلة وليلة" بدعوة سابقة إلى الطعام أوّلًا. ويرتبط الطعام والطبخ بالحب ارتباطًا شديدًا في المجتمعات الريفية في أزمنةٍ ماضية، حيث تسلب فيها المرأة قلب الرجل بلذّة الطعام الذي تطبخه.

يرتبط الطعام والطبخ بالحب ارتباطًا شديدًا في المجتمعات الريفية في أزمنةٍ ماضية، حيث تسلب فيها المرأة قلب الرجل بلذّة الطعام الذي تطبخه

لكنّ الطبخ نفسه، باعتباره جزءًا خفيًا من تراكم التحضّر والتمدّن التاريخي والإنساني، لا يكتفي بكونه تحصيل حاصل داخل الممارسات اليومية لأنماط العيش والسلوك الاجتماعي، وإنّما، والحديث ضمن الأدب وغابات السرد، كان في أحيانٍ كثيرة رافعةً للسرد وفعلًا يقضي بتطوّر الحكاية. وعدا عن الأدب، يجسّد الطبخ ونتاجه، الطعام، مقولة "الإمتاع والمؤانسة".

لعلّ الحديث عن الطبخ والأدب يأخذنا إلى فكرة أنّ عددًا كبيرًا من الكتّاب كتبوا رواياتهم على طاولة المطبخ. ولكن، ماذا عن الطعام داخل الرواية؟ 

اقرأ/ي أيضًا: عن ثقافة الطعام والطهو الجيد... 3 وثائقيات على نتفليكس

تسعى لورا إسكيبيل في روايتها "كالماء للشوكولاتة" (دار بلومزي، 2015/ ترجمة صالح علماني) إلى تشريح العلاقة المعقّدة والغامضة بين الطعام والحبّ. الكاتبة المكسيكية تبني روايتها في المساحة التي تفصل بينهما، ما جعل الرواية مُشيّدة على الأسى الذي يستحضره الحبّ من جهة، والتوابل والنكهات والبهارات التي يشترطها وجود الطعام من جهةٍ أخرى. ما معناهُ أنّ السّرد يُحدِّدهُ أو يُسيِّرهُ الطعام والطبخ الذي حدَّد بدوره ظرف الحبّ ومآلاته أيضًا.

تمنحُ إسكيبيل في روايتها هذه حيّز السّرد الأكبر للطعام والطبخ، تُجاورهما علاقة حُبٍّ مُحرّمة شكّلت خطّ الإمداد للحيّز الأوّل. ذلك أنّ العلاقة التي تجمع تيتا وبيدرو تأخذ منحىً آخر أحال علاقتهما نوعًا من الأسى بعد أن رفضت والدة تيتا تزويجها لبيدرو، تماشيًا مع عرفٍ مكسيكيّ يشترط على الفتاة الأصغر سنًّا في العائلة ألّا تتزوّج إلّا بعد وفاة والدتها. وكمحاولةٍ منه للالتفاف على أيّ بُعدٍ بينهما، وسعيًا منه للبقاء قريبًا منها، تيتا، يتزوّج بيدرو شقيقتها الكبيرة. وكمحاولةٍ منها لمواساة ذاتها، تلجئ تيتا إلى المطبخ الذي بات سبيلها لإيضاح حياتها وفهم عاطفتها وطريقتها في الحبّ. 

بعد الزواج، يتولّى الطبخ مسؤولية بناء البطانة الداخلية للرواية، ونسج العواطف في الخفاء أيضًا. بما يعني أنّ ما تُعدّه تيتا يأتي نتاج حالاتٍ معيّنة قوامها الأسى والحزن، يكون الطعام عندها تعبيرًا مُبطّنًا عن حبٍّ مُحرّم بينها وبين بيدرو. "مثلما يتلاعب شاعر بالكلمات كانت تتلاعب على هواها بالمكونات والمقادير، متوصّلة إلى نتائج مذهلة. ولكن من دون جدوى، فكلّ جهودها تذهب أدراج الرياح. لم تتوصل إلى أن تتنزع من شفتي بيدرو كلمة ثناء واحدة. ولكن ما لم تكن تعرفه أنّ ماما إيلينا قد طلبت من بيدرو أن يمتنع عن امتداح الطعام". (ص75).

هكذا، تنسجُ وصفات تيتا ما نقرأهُ، وتتولّى رفع السرد وبناء الحكاية أيضًا. فقالب الحلوى الذي أعدّته لزفاف شقيقتها وبيدرو كان كفيلًا ببثّ النوستاليجا وإبكاء من تناولهُ، والسبب امتزاج مكوّناته بدموعها، تيتا. بينما أشعل طبق طيور السمّان ببتلات الورد الشهوة في أبدانهم، والسبب سقوط قطرات دماء من اصبعها في الوعاء.

تفكيك العلاقة بين الطعام والحبّ، هو ما يعني لورا إسكيبيل أوّلًا. وتاليًا، يأتي بناء الصورة التي رأينا الطبخ عليها في الرواية: إمتاع ومواساة ومؤانسة للذات. أمّا الإضاءة على حياة النساء في الريف اللبنانيّ وقُراه انطلاقًا من المطبخ باعتباره جزءًا أساسيًا في هويّة المرأة في أمكنةٍ كهذه؛ فهو ما يعني بسمة الخطيب في روايتها "برتقال مرّ" (دار الآداب، 2015).

الكاتبة اللبنانية اختارت الطبخ ليكون وسيلةً تكشف سيرورة ما برحت المرأة تعيش فيها أسىً يُبدِّد العمر. في المقابل، بدت الخطيب حريصةً على عدم انتزاعه، الطبخ، من مكانه وصورته التي رأيناها في رواية لورا إسكيبيل، بل وإشراك صفته تلك مع صورته داخل الرواية كأسلوبٍ تتحايل به النساء على واقعهنّ. لأنّ "من يطبخ لأجل أن يشفى، ولأجل أن يفرح، ولأجل أن يخرج حزنه، ولأجل أن يحبّ، ولأجل أن يمحو إساءة... من يفعل هذا لا يطهو فقط، بل يحيا حياة بديلة ليبقى ثابتًا على قدميه" (ص251).

اختارت بسمة الخطيب الطبخ ليكون وسيلةً تكشف سيرورة، ما برحت المرأة تعيش فيها أسىً يُبدِّد العمر

الحيلة بدروها لا تلغي فكرة أنّ الطبخ هو، في المقام الأوّل، فعل حبّ في أمكنةٍ تُقيد مشاعر النساء وتمنعهنّ من التعبير عنها، بينما يكفل لهنّ الطبخ ذلك. وإلّا كيف يُفسّر وقوف المرأة ساعاتٍ طويلة لأجل طبخة؟ وبالتالي، يكون الطبخ ونتاجه، الطعام، رسائل حبّ مبطّنة في رواية الخطيب، تمامًا كما لو أنّ من تطبخ... تكتب. "عندما أكتب إليك لا أكون سعيدة كما عندما أطبخ، والفارق واضح. ما أكتبه ينتهي في سلّة المهملات، بينما يبقى ما أطهوه في الدماغ" (ص249).

اقرأ/ي أيضًا: الطعام أحد محددات الهوية الوطنية

تُحاول بسمة الخطيب أن تُضيء على حياة المرأة في المجتمعات المحافظة من خلال الطبخ علانيةً، وأن تؤرّخ للطبخ نفسه سرًّا بعد نزعه من تصنيفاتٍ أحالته تحصيل حاصل داخل الممارسات اليومية لأنماط العيش، ومنحه صفاتٍ موازية لصفات الإنسان، بحيث لا يكون بمنأى عن النكسات والهزائم، وبشكلٍ يجعل منه، أو من طرق ممارسته، دلالةً على حال الزمن القائم: في السخاء والرخاء يكون فنًّا. أمّا في الحروب، فهو ضرورة يصير التفنّن في ممارسته عندها نوعًا من الترف. والخلاصة أنّ الزمن إن طاب فيه الطعام، طابت فيه الحياة.

قدّمت "كالماء للشوكولاتة" الطبخ ضمن حيّز مكانيّ محدود، وبنت عليه أزمة فردية وعلاقة حبّ محرّمة. أمّا "برتقال مر"، فقدّمت الطبخ ضمن حيّز مكانيّ مفتوح على أمكنةٍ أخرى، وبنت عليه أزمة فردية جاءت نتيجة أزمة جماعية. وفي كل من الروايتين، ارتبط الطبخ بالذات أوّلًا، كما لو أنّ بناء رواية على موضوعة الطبخ، يشترط أن يكون الأخير مرتبطًا بالذات بالدرجة الأولى. في رواية "الشيف" (دار الرافدين، 2017) ترجمة سعد جواد محمد عوض؛ لا يلتزم الكاتب الهندي جاسبريت سنغ بالقاعدة أعلاه، إذ ربط الطبخ في روايته، بما يستدعيه من روائح وتوابل، بالتنويعات المذهبية في بلاده: سيخ وهندوس ومسلمون.

بنى سنغ روايته على معجمٍ أُنشئ من مفردات الطبخ. وقرأ، انطلاقًا من المطبخ، صراعًا سياسيًا ومذهبيًا قائمًا بين الهند وباكستان حول كشمير، أو ظلّ الجنّة كما تُسمّى. الطعام نفسه، كمذاق وممارسة، يدخل في صلب الصراع بحيث يُعيد تقديمه وفقًا لمفرداته. فالحرب بين الطرفين اندلعت بغية "التهام" الوجبة الشهية المسمّاة كشمير، تلك التي لن يكتمل مذاقها دون إضافة كلّ طرفٍ توابله الخاصّة التي تحطّ من قيمة توابل الطرف الآخر. بالإضافة إلى مراعاة طبيعة وخصوصية كلّ طرفٍ في تناوله لطعامه.

ينشغل جاسبريت سنغ ببناء صور كثيرة للطبخ ونتاجه في الرواية. بالإضافة إلى تمريره لأحداث وأخبار بين الأطباق التي تُوضع على المائدة. وهو، حينما يقول على لسان بطله، كبرال سنغ، إنّ الجنرال كان "ضعيفًا أمام الأكلات الكشميرية، يأكل تلك الصحون ويلحس أصابعه"، إنّما يضع الأكلات الكشميرية مكان كشمير، والجنرال مكان الحكومة الهندية، بحيث يبلور شغف الأخيرة بـ "التهام" المكان، ظلّ الجنّة. وحينما يتحدّث الشيف كيشان عن طبخ الخنزير أمام علماء مسلمين، فإنّه يشير إلى صراعاتِ أخرى قائمة على الطعام، وعلى ما هو محلّل هنا، ومحرّم هناك.

قرأ الكاتب الهندي جاسبريت سنغ، انطلاقًا من المطبخ، صراعًا سياسيًا ومذهبيًا قائمًا بين الهند وباكستان حول كشمير

باتّخاذه موقعًا يتوسّط صراعًا طويلًا؛ لم يتخلّ الطبخ في رواية "الشيف" عن مكانه كفعل امتاع ومؤانسة وحبّ ومواساة. فالشيف وجد في الطبخ وسيلة لمؤانسة نفسه. والجنرال وجد في تناول الطعام وسيلة للمتعة واللذّة. بالإضافة إلى صورته كمعجمٍ انتقى منه جاسبريت سنغ مفردات روايته. في رواية "النباتية" (دار التنوير، 2017) ترجمة محمود عبد الغفار؛ يأخذ الطعام منحىً آخر مختلف كلّيًا عما قرأناه قبلًا. الروائية الكورية هانغ كانغ انتزعت الطعام من مكانه الذي لم يُغادره في الروايات السابقة، ووضعته في مكانٍ بات، انطلاقًا منه، مصدرًا رئيسيًا للقلق والخوف، يدفع ببطلة الرواية إلى التصالح مع الذات أحيانًا، وأحيانًا أخرى نحو الهاوية.  

اقرأ/ي أيضًا: نظرة على قائمة طعام في مطعم إسرائيلي

يتولّى الطعام الذي أضاف إلى الروايات السابقة مسحةً جمالية، مسؤولية إثارة الأجواء السوداوية داخل الرواية، تمامًا كما لو أنّنا أمام كافكا آخر. الأجواء السوداوية تبدأ لحظة تخلّص البطلة من اللحوم الموجودة في الثلاجة، والتحوّل إلى كائنة نباتية دون أن يكون الأمر متعلّق باتّباع حياة صحّية لجهة الغذاء. ذلك أنّ المقاطعة كانت، بالدرجة الأولى، قائمة على الكراهية التي شملت الرائحة أيضًا، وإذ بالأخيرة تُنهي زواج البطلة بعد أن رفضت، بحزم، ممارسة الجنس مع زوجها، مُبرّرة الأمر بالقول: "رائحة اللحوم. جسدك تفوح منه رائحة اللحوم".

في لحظات بوح خالصة، تختزل بطلة الرواية الجديد الذي طرأ على حياتها بالقول: "هو قلبي ما يتعذب. ثمّة ما هو عالق عند أعلى معدتي، ولا أعرف ما هو. إنّه دائمًا هنا. وبت الآن أشعر به حتّى حين لا أرتدي صدريتي. هنالك أصوات صراخ، زئير، تتراكم وتنغرز. السبب هو اللحم. لقد أكلت الكثير منه. كلّ تلك الحيوانات بقيت عالقة هنا (...) متشبثة بمعدتي بوحشية".

 

اقرأ/ي أيضًا:

سالغاري والقرصان الأسود

فيلم "الشوكة أهم من السكين".. عن النظام الغذائي النباتي بوصفه دواء