10-يونيو-2022
الحرب السيبرانية

الحرب السيبرانية

هل يقوض الذكاء الاصطناعي الحضارة الإنسانية أم سينقلها لمستقبل مجهول؟

في ظل التسارع المعرفي –نظريًا وتقنيًا- وتحديدًا الثورة الرقمية التي تجتاح العالم بأسره، بات الذكاء الاصطناعي يتسيد المشهد في الحرب الإلكترونية العالمية التي بدأت مؤخرًا بين اللاعبين الأساسيين والمؤثرين في النظام الدولي، ويصعب التنبؤ بنهايتها، أو قد لا تنتهي. وأصبحت الحروب الإلكترونية تغير الدور الطبيعي والتقليدي في الحروب وأدواتها، وشكلت الحرب بين أذربيجان وأرمينيا نموذجًا فعليًا عن الحروب المستقبلية، والتي كانت حربًا خاطفة.

بات الذكاء الاصطناعي يتسيد المشهد في الحرب الإلكترونية العالمية التي بدأت مؤخرًا بين اللاعبين الأساسيين والمؤثرين في النظام الدولي

 

وتزامنت مع انهماك العالم بمواجهة انتشار فيروس "كورنا". بالإضافة إلى أن النزاع على إقليم "ناغورني قره باغ" قد غاب عن أذهان العالم. وسبب اعتبارها نموذجًا لحروب المستقبل كونها اعتمدت على الدعاية الإعلامية منذ بداية الحرب، والتي تمثلت بنشر القوات العسكرية الأذربيجانية على موقعها على اليوتيوب مادة إعلامية مرئية أظهر تعبئة معنوية ومغالاة التعصب الوطني ورفع شعار يتمثل بـ"الكراهية للعدو". وشكل النزاع نقطة تحول في الحروب الحديثة كونها نشرت شاحنات في محتوى المادة الإعلامية، والتي أظهرت صورًا في مقطع الفيديو لإطلاق ما بات يعرف بـ "الذخيرة المتسكعة" وهي طائرة بدون طيار، تنتجها شركة لصناعات الطيران والفضاء الإسرائيلية المملوكة للدولة تدعى "هروب". ويمكنها الطيران أو "التسكع" لساعات بحثًا عن هدف، وعندما تحدد الهدف المطلوب تستهدفه بجسمها دون الحاجة لإطلاق أي قذيفة، انطلاقًا من فكرة طائرات "كاميكازي" اليابانية الانتحارية في الحرب العالمية الثانية.

هذه الأسلحة لم تكن مجرد دعاية إعلامية جذابة، لكونها أحدثت فرقًا حربيًا حقيقيًا ليس بسبب فاعليتها في التسكع، بل أيضًا لصعوبة محاربة هذه الأنظمة، وكانت ميزة هذه الحرب أنها أول حرب تم كسبها جزئيًا بفضل استخدام هذا النموذج من الأسلحة المستقلة. وبمجرد عرض هذه الأسلحة إعلاميًا والترويج لها في العروض العسكرية، أبدت أنظمة عديدة رغبتها في امتلاكها. وكانت الرسالة الإعلامية المستقاة من هذه الحرب المعتمدة على الأسلحة المتسكعة "هذا هو المستقبل". وتشير أنها تمتاز بالاستقلالية بعيدًا عن التحكم البشري، وهو ما يبرر الشعار الذي اعتمدته شركة اسرائيل للدفاع وصناعات الفضاء على احدى نماذجها "أطلق وانسَ".

عند التفكير في هذا الشعار وتأمله فهو مسمى مرتبط بمضمون ذي مغزى عميق، فبات اليوم يتم استخدام الأسلحة المستقلة للعثور على هدف من مسافات بعيدة وتدميره دون تدخل بشري، وهذه الثورة الجديدة تتم بدفع من الذكاء الاصطناعي.

أظهر تقرير صادر عن لجنة الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية أهمية إتاحة الذكاء الاصطناعي لنموذج جديد في القتال الحربي، ويحث على استثمارات ضخمة في هذا المجال. ويغذي كل هذا احتدام المنافسة العالمية، حيث أوضح الصينيون والروس أنهم يعتزمون متابعة تطوير الأسلحة المستقلة، ويستثمرون بكفاءة عالية بالبحث والتطوير في هذا الجيل من الأسلحة، وخاصة القوى العظمة، بالإضافة إلى إسرائيل الرائدة في صناعة الأسلحة المستقلة، والتي سيتعمق دورها بسبب حاجة الدولة الاستراتيجية لها وتحول ذلك إلى سباق جديد للتسلح والذي قد بدأ للتو. ويعزى ذلك إلى أن الذكاء الاصطناعي موجود ليبقى، ويوجد اعتقاد راسخ لدى الدول الكبرى أن هذا السباق سيحدث فرقًا جوهريًا، لا سيما في ساحة المعركة في المستقبل، ما يدفعها إلى الاستثمار بشكل محموم، لاعتبارات عدة فهو يشمل الجانب العسكري بالإضافة إلى الجوانب المدنية، لأن القضية تتمحور حول استثمارات بملايين الدولارات متصلة بصورة وثيقة في مستقبل ما يعرف بـ"الاقتصادات المرنة".

يمكن للأسلحة المستقلة القضاء على نظام دفاع جوي من خلال استهدافه بأعداد كثيرة جدًا حتى تغمر النظام وتدفنه، ولها الكثير من الفوائد التكتيكية في ساحة المعركة. والورطة الحقيقية أنه لا يمكن محاربة الأسلحة المستقلة إلا بأسلحة مماثلة تمتاز بالسرعة والكثرة في آن واحد. ومن المتوقع خلال عقدين من التطور التكنولوجي وتبني الأسلحة المستقلة بشكل متزايد، وسيكون هناك أسراب من  الأنظمة غير المؤهولة، وليس بالضرورة طائرات بدون طيار، وإنما نماذج أخرى متعددة، وهو ما سيكون عليه جوهر سباق التسلح خلال السنوات العشرين القادمة، والتي سيسكنها خطر الانظمة المستقلة التي قد لا يكون من السهل التحكم بلحظة دخولها الحرب بسبب التقديرات الخاصة بها والمستقلة عن التحكم البشري، واحتمالية التعرض لما يعرف بـ"الحرب الخاطفة" في أماكن مختلفة من النزاعات والصراعات حول العالم.

ما تزال الجهود الدولية مستمرة للحافظ على السيطرة البشرية على الأسلحة، الدعوة إلى اتفاقيات وبرتوكولات دولية تضمن ذلك وتلتزم بها الدول لغرض عدم انزلاق العالم في المجهول

ما تزال الجهود الدولية مستمرة للحافظ على السيطرة البشرية على الأسلحة، الدعوة إلى اتفاقيات وبرتوكولات دولية تضمن ذلك وتلتزم بها الدول لغرض عدم انزلاق العالم في المجهول، والحفاظ على سيطرة بشرية ذات مغزى واعتماد عمل الأسلحة المستقبلية على المدخلات البشرية، وليس المدخلات التي تقوم على أجهزة الاستشعار. فبعض الدول كالصين تدعو إلى حظر هذه الأسلحة لكنها لم تتحدث عن عدم تطويرها لهكذا نوع من الأسلحة، أما بالنسبة لروسيا فما زالت تراوغ وتتهرب من أي التزام لحظرها، وبالنسبة لامريكا وبريطانبا واسرائيل فهي ماضية في تصنيعها وانتاجها وامتلاكها وتطويرها للاسلحة المستقلة. ولا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا ستتصارع بشكل ملحوظ في التسابق إلى امتلاك الأسلحة ذاتية التشغيل في المستقبل.

الصراع السيبراني بين اللاعبين الدوليين الفاعلين ضد أدوات التحكم بالأسلحة النووية قد يؤدي إلى سلسلة متتابعة من الأحداث، وما يثير القلق، أن هذا الصراع قد يتصاعد إلى أمر يشبه نهاية العالم ونهاية الحضارة، لأن الإنسان قد لا يكون قادرًا على السيطرة على ما أنتجه وينتجه الذكاء الاصطناعي، لأن الآلة التي أوجدها باتت مستقلة وتتحكم بسلوكها ذاتيًا بعيدًا عن إرادة البشر، وهذا بحد ذاته تصور مرعب، لأن الآلة باتت هي المتحكم بالحياة والموت، الأمر الذي لتفتح تساؤلات وجودية بشأن الجنس البشري، وأخرى غيبية تتعلق بإمكانية تقويض "الذكاء الاصطناعي" للحضارة الإنسانية من جانب، أو أنها ستنقل الإنسان إلى مرحلة مفصلية وتاريخية في سيرة البشرية.