20-مارس-2022
شابة مسلمة في جلسة استشارية

شابة مسلمة في جلسة نفسية (Getty)

قد يُلاحظ من يتردد على عيادات العلاج النفسي، سواء أكانت لأطباء أو معالجين نفسيين، ازدياد أعداد الناس الذين يتقبلون الفكرة، كما أصبحت مسألة مشاركة أرقام الاتصال الخاصة بطبيب أو معالج يُنصح به بين الأصدقاء والمعارف أكثر شيوعًا من ذي قبل.

بيد أن الطريق نحو إعطاء الصحة النفسية الاهتمام الذي تستحقه ما تزال طويلة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، رغم التغييرات التي تبدو على السطح. في معظم الأحيان، ما يزال يواجه من يريد الوصول إلى هذه الخدمة العديد من المعيقات، من بينها ارتفاع أسعار الجلسات والوصمة الاجتماعية التي قد تكون اختفت في دوائر محدودة، ولكنها ما تزال حاضرة بقوة في دوائر كثيرة غيرها يُعامل فيها من يُعبّر عن حاجته لزيارة أخصائي نفسي على أنه إما "غير سوي" أو "ضعيف الإيمان"، وكثيرًا ما يُنصح بتكثيف العبادات والتقرب من الله بدلًا من زيارة طبيب لن يقدم أو يؤخر في علاجه، بحسب اعتقاد البعض في هذه الدوائر.

الطريق نحو إعطاء الصحة النفسية الاهتمام الذي تستحقه ما تزال طويلة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة، رغم التغييرات الكثيرة التي تبدو على السطح

 

في هذه المقالة، أستعرض تجربة امرأتين مسلمتين من المملكة المتحدة والعراق مع الصحة النفسية، وما واجهتاه من اتهامات بخصوص إيمانهما بالله في مشوارهما للتعافي، الذي لم ينتهِ بعد.

"لا يوجد مسلم مكتئب"

 في كتاب بعنوان "ليست مجرد برقع"، والذي يجمع مقالات كتبتها نساء مسلمات عربيات وغير عربيات يتحدثن بأنفسهن عن أنفسهن، روت جميلة حكمون في مقالها معاناتها مع القلق الذي لازمها لفترة طويلة، ومن ثم وصل إلى مستويات خطرة عندما كانت تواصل دراستها في العاصمة الأردنية عمّان.

في يوم من أيام تلك السنة التي عاشتها بعيدةً عن عائلتها وأصدقائها المقربين المقيمين في المملكة المتحدة، شعرت جميلة وكأنها على وشك أن تفارق الحياة، وذلك من شدة نوبة الهلع التي أصابتها. في بادئ الأمر، ظنّت بأنها تعاني من مشكلة في القلب، ولكنها أُبلغت في المسشتفى بأن الأمر مرتبط بالتوتر، الذي لم تكُن تُدرك حتى ذلك الحين بأنه قد يؤثر عليها إلى تلك الدرجة، فلطالما قيل لها بأن الجميع يعانون من التوتر ولا داع للمبالغة في رد الفعل. 

اقرأ/ي أيضًا:
في مديح الحفظ

تُخبرنا جميلة بأنها محظوظة إلى حدٍ ما، لأنها حظيت بتعليم علماني يشجعها على الذهاب إلى الطبيب عندما تمر بمثل هذه الحالة، بخلاف كثيرين في المجتمع المسلم، حيث ينتشر اتجاه في أوساطه يعتبر أنك لا يمكن أن تكون "مسلمًا ومكتئبًا في الوقت ذاته"، فالمسلم الحقيقي يرضى بما كتبه الله له. لا تنفي جميلة أنها تعرضت، رغم كونها محظوظة نسبيًا، إلى صراع هي الأخرى بين حاجتها إلى العلاج من جهة والتشكيك في إيمانها من جهة أخرى.

في المجتمع الذي تنتمي إليه، يؤمن الناس بأن الإسلام يقدم الحلول والرؤية الشمولية للحياة، ممّا قد يؤدي إلى نظرة أحادية فيما يخص الصحة النفسية تترك من يعانون لوحدهم تمامًا. تُجادل الكاتبة بأن عددًا كبيرًا من المسلمين يترددون بشأن طلب المساعدة، خصوصًا إن كان المعالج أو الطبيب من غير المسلمين، لأنهم إما يُظهرون العداء للإسلام أو ببساطة يفشلون في رؤية دور الإيمان إما كجزء من المشكلة أو من حلّها. هؤلاء يظلون لوحدهم أيضًا، لأن الشعور بالفخر في العائلة المسلمة أساسي، ولا أحد يرغب في أن يشعر وكأنه يجلب العار لذويه عندما يعترف أمام الجميع بأنه يعاني من مشكلة نفسية ما.

من المهم هنا أن نتذكر السياق الذي تتحدث فيه الكاتبة، فكثيرون من هؤلاء المسلمين الأكبر سنًا الذين تعيش بينهم هم من الجيل الأول من المهاجرين الذين واجهوا معاناة حقيقية لتلبية حاجات عائلاتهم وتحقيق شيء من الاستقرار، ومن الصعب عليهم أن يعترفوا بمشروعية المشاكل النفسية، فيتعاملون مع أي مشكلة كما اعتادوا، أي من خلال تجاهلها والاستمرار في السعي في الحياة اليومية كأن شيئًا لم يكُن. علاوة على ذلك، لا تنسى الكاتبة الإشارة إلى معتقدات سائدة أيضًا تُحمّل الجن أو قوى ما وراء الطبيعة اللوم في المشاكل النفسية التي يعاني منها الأفراد، فكل ذلك بالطبع أسهل من التعامل مع جذور المشكلات.

ظل القلق رفيق جميلة حتى بعد أن أنهت دراستها في عمّان وعادت إلى المملكة المتحدة، وخصوصًا عندما انتقل والدها وأشقاؤها إلى ليبيا. بوجود أفراد من عائلتها في بلدٍ تُعاني من ويلات الحرب، ظلت الكاتبة ملتصقة بهاتفها على مدار الساعة، متوقعةً وصول أنباء غير سارة، شأنها في ذلك شأن نسبة كبيرة من مسلمي بريطانيا الذين ما تزال تربطهم صلات ببلدانهم الأم التي تعاني غالبيتها من الحروب، والمجاعات والكوارث. إلى جانب مصادر القلق الدائم من هذه البلدان الأم، تكثر أيضًا مسببات القلق في موطنهم الجديد في بريطانيا، إذ تشرح الكاتبة بأن المسلمين يعيشون في أكثر مناطق البلاد حرمانًا، ويُشكلون ما نسبته 13% من النزلاء في السجون، ويعيش عدد كبير منهم في المساكن الاجتماعية التي توفرها الدولة، ويتمتعون بقدر أقل من المال ويواجهون صعوبة أكبر في الوصول إلى الخدمات وفرص التوظيف الدائم، إذ قد يحرمهم أمر بسيط، مثل اسمهم، من الحصول على وظيفة.

يؤمن الناس بأن الإسلام يقدم الحلول والرؤية الشمولية للحياة، ممّا قد يؤدي إلى نظرة أحادية فيما يخص الصحة النفسية تترك من يعانون لوحدهم تمامًا

 

بعد استعراض كل تلك الظروف، تتساءل الكاتبة بشكل محق إن كان من حولها يعي بالفعل أثر كل ذلك على الصحة النفسية لأبناء وبنات المجتمع، وتستغرب ممّن يختزل الحل في المزيد من الصلاة والصيام، ويُصدّر خطابًا مفاده بأن القلِق أو المكتئب هو شخص غير ممتن بالضرورة لأن هناك من هو وضعه أسوأ من ذلك بكثير. تُجادل جميلة بأن الصلاة والصيام لا يُمكن أن يحلا المشكلة لوحدهما، ويجب على الأئمة والقادة الدينيين أن يفهموا بأنه لا يوجد وصفة واحدة تصلح للجميع، فلا يُمكنك أن تنصح من يعاني من "الوسواس القهري" بالمزيد من الصلاة، لأنه قد يُبالغ في تأديتها مرارًا وتكرارًا خوفًا من ارتكاب أي خطأ، فيضره ذلك بدلًا من أن ينفعه، تمامًا كما يضر المزيد من الصيام من يعاني من "فقدان الشهية" المرضي، فهؤلاء يحتاجون إلى من يتعامل مع جذور مشاكلهم. ليس هذا وحسب، فالصلاة، بحسب الكاتبة، تجربة شخصية تختلف من شخص إلى آخر، وتتطلب طاقة للقيام بها، وهناك أيام مرت بها هي لم تكُن قادرة على النهوض من السرير، وكانت تنسى أن تأكل وتشرب، فمن أين لها ولمن يمر بالظرف ذاته أن يستجمع الطاقة الكافية للنهوض والقيام بالوضوء والصلاة؟

عندما تقول لهؤلاء العاجزين في مرحلة ما من حياتهم عن القيام بهذه العبادات بأنهم ليسوا مسلمين صالحين، فأنت تدفعهم للابتعاد لا الاقتراب من الدين، ولا تُساعد في مشوارهم للتعافي. هذا بالضبط ما دفع كاتبة ومترجمة عراقية تُدعى بلقيس، وهو اسم مستعار، إلى التوقف عن مشاركة مشاعرها مع من حولها من الأقارب وبعض الأصدقاء.

اقرأ/ي أيضًا:
جيش سارقي البيض

في حلقة صوتية بعنوان "أنا اليوم مو أوكيه"، تحدثت بلقيس عن قلق لازمها منذ المراهقة، عندما توفيت شقيقتها الأكبر سنًا في العراق المُحاصر، بينما كانت العائلة في بلدٍ آخر، ولم تواجه العائلة هذا الموت كما يجب، وإنما فضلوا قبول الأمر الواقع في حينه ودفن أي مشاعر كان من الأجدر بهم، برأيها، التعامل معها كعائلة واحدة. هكذا تحولت علاقتهم ببعضهم البعض إلى علاقة غير صحية مبنية على الهلع من فقدان أي فرد منهم مرة أخرى، ولكن دون أن يواجهوا هذه المخاوف، وظل هذا القلق رفيقها حتى بعد مرور أكثر من عشرين سنة.

جرّبت هي الأخرى مراجعة الأخصائيين النفسيين، ولكنها تعترف بأنها لم تكُن قادرة على تحمل الكلفة التي رفضت شركات التأمين الصحي تغطيتها، فلجأت إلى محاولة علاج نفسها بنفسها، دون أن تُفصح عن مشاعرها للمحيطين، الذين يسألونها سؤالًا واحدًا "هل قرأتِ القرآن مؤخرًا؟". تعتبر بلقيس نفسها مؤمنة، وتؤدي الفروض وتقرأ القرآن، ولكنها عاجزة عن شرح أمر بسيط لهم: الصلاة بأحسن الأحوال تمنحني الراحة للحظات، ومن ثم يعود الشعور ذاته للسيطرة عليّ، فلا يُعقل أن أسير بسجادة صلاة طيلة الوقت. هذه هي الحقيقة بالنسبة لها، ولكنها تظل تُخفيها وتحتفظ بها لنفسها خوفًا من الحكم المسبق عليها بضعف إيمانها هي الأخرى.

خطوات في الاتجاه الصحيح

لحُسن حظ جميلة، فقد وجدت إمامًا في مجتمعها المحلي يدعمها وينصحها بأخذ الأدوية التي وصفها الطبيب، فقد اعتبر بأن من يُعاني من ألم جسدي يتناول الأدوية التي تُعالجه، والأصح أن يتم التعامل مع المرض النفسي بالطريقة ذاتها. تعتبر الكاتبة بأن الإمام الذي استشارته مُحق، فتفسير المشاكل النفسية على أنها نابعة من "قلة الإيمان" لا يتناسب مع الفكر الإسلامي والممارسات الإسلامية، كما أنه غير دقيق تاريخيًا، إذ كان لعلماء مثل ابن سينا والغزالي والكندي مساهماتهم في العلاج النفسي والتخلص من الوصمة التي ترافقه.

يجب على الأئمة والقادة الدينيين أن يفهموا بأنه لا يوجد وصفة واحدة تصلح للجميع، فلا يُمكنك أن تنصح من يعاني من "الوسواس القهري" بالمزيد من الصلاة، لأنه قد يُبالغ في تأديتها مرارًا وتكرارًا خوفًا من ارتكاب أي خطأ، فيضره ذلك بدلًا من أن ينفعه

وتذكر أيضًا بعض الخطوات التي تعتبر أنها تسير في الاتجاه الصحيح، فهناك عدد من المنظمات المختصة بالصحة النفسية التي بدأت بتدريب الأئمة والقادة الدينيين، ليكونوا قادرين على التعامل مع هذه المسائل دون اختزالها بطريق واحد فقط: إما طبي أو روحاني. المطلوب، برأيها، هو دمج الاثنين معًا وتقديم دعم يُشبه ما قدمه لها الإمام الذي استشارته، فساعدها، ولكن بعد أن حصلت على العلاج اللازم، على فهم دور الصلاة في مساعدتها على التعافي.

هاتان قصتا جميلة من المملكة المتحدة وبلقيس من العراق، وليس لدي أدنى شك بأنهما تشبهان الكثير من النساء والرجال في عالمنا العربي، ممّن استسلموا أو كادوا يستسلمون تحت وطأة كل الضغوط التي نعيشها. إيمان كل هؤلاء أمر يخصهم وحدهم، ولا علاقة له بما يجري، ولربما الأجدر بنا بدلًا من طرح سؤال "هل أنت ملتزم بالصلاة" أن نسأل "كيف يمكننا ضمان حصولك على مساعدة المختصين؟"

لربما حينها فقط نُشعرهم بأنهم ليسوا لوحدهم تمامًا.   

اقرأ/ي أيضًا:
العالم خارج نفسه