30-مارس-2023
نفق في لوغانو السويسرية

نفق في لوغانو السويسرية

لم يعد الناس يقرؤون الصحيفة، بل باتوا يكتبونها.

هذا ما صنعته المنصّات حين جعلتنا نشهد تحوّل الصحافة إلى مدونات في وقتنا الحالي. لأنّ الناس وجدوا في التدوين، بالإضافة إلى سهولة نشره، أنه أقرب إلى المحادثات الشخصية، ويخلو من رسمية وصرامة المقالات الصحافية، وأكثر قابلية لاحتواء الهموم والهواجس الشخصية.

ومع مرور الوقت وتطور التقنيات، بات كل واحد منا قادرًا على إنشاء جريدته أو مجلته الخاصة على الإنترنت، ونشر المحتوى الذي يرغب به بطريقة سلسة وخالية من التعقيد، الأمر الذي جعل من التدوين حالة جماعية تقوم على اتجاهين؛ من المدونين والمتلقين، بدلًا من الكتابات الصحافية التي تأتي من اتجاه واحد هو المؤسَّسة.

مثّلت المدونات أداة قوية للتعبير عن الذات، ووسيلة لمشاركة المعلومات أو التثقيف أو الترفيه أو إلهام الآخرين، إلا أنها راحت تنحو بشكل متسارع نحو ما هو شخصي

مثّلت المدونات أداة قوية للتعبير عن الذات، ووسيلة لمشاركة المعلومات أو التثقيف أو الترفيه أو إلهام الآخرين، إلا أنها راحت تنحو بشكل متسارع نحو ما هو شخصي، وبقليل من الوقت، خصوصًا مع انتشار المنصات الاجتماعية، باتت تقتصر على طرح القضايا الشخصية، او طرح القضايا من منظور شخصي.

وها نحن نطالع يوميًّا نصوصًا بأعداد هائلة، يتحدّث أصحابها في كل شيء، حتى إن بعضها يذهب إلى الحديث عن الوضعيات الجنسية المفضّلة، أو أفضل الطرق لشرب فنجان القهوة.. بما يُوحي أنه على هذا النحو يُمكن أن نُعلي من صوت الفرد. لكننا في الحقيقة بتنا نتحدث في شؤون لشدة ما هي موغلة في شخصانيتها لا تعني إلا أصحابها، ولا تصلح لمشاركة الآخرين.

في المدونات من المفترض أنك تتابع وتعرف الحدث، بينما في الصحافة ثمة سياق دائم. فبدلًا من أن نقرأ تحقيقًا عن فساد يعطي صورة واضحة لقضية يمكن أن نكتفي بقصة. وبدلًا من أن يكون هناك متابعة اجتماعية تغدو اعترافات شخصية على الهامش تساوي الحدث. حين تتخلى الصحافة عن وظيفتها من حيث كونها منبرًا للمجتمع والحرية والحقوق، لتتحول إلى منصة للحكي عن أفراد، فهذا يعني أن القصص تخص هؤلاء الأفراد حصرًا. الفساد يخصهم. القمع يخصهم. يختفي البعد العام. هكذا بالضبط تموت الحقيقة.

إعلاء صوت الفرد وشؤونه ليكون جزءًا من الفضاء العام شيء، وجعل يوميات الحياة الفردية هدفًا شيء آخر. لأننا في الأولى نتحدث عن مجتمع يترابط أفراده بأشكال عديدة، ويسعون عبر التفاعل إلى التطور والتقدم، لكننا في الثانية نتحدث عن حياة هدفها أن تقرّ وتثبت على ما يحقّق متعها ورفاهيتها، من دون أي نوع من الارتباط بالآخرين، عبر أي شكل من التعاون أو التضامن.

ترى الصحافة الفرد والمجتمع كلًّا متكاملًا، بينما تراهما المدونة الحالية في حالة من الانفصال. ويغدو هذا التفارق شاسعًا كلما كثرت المنابر والصفحات الشخصية، إذ يجعل كلٌّ منا نفسه مجتمعًا.

في المجتمع الذي تمثّله الصحافة، لدينا أفرد يعيشون ضمن محدّدات اجتماعية حديثة تصنعها الحقوق والواجبات، ويرسم حدودها القانون. تؤثر عليها السياسات العامة في انعكاساتها الاقتصادية الاجتماعية، بينما في في المجتمع الذي تمثّله المدونات هناك أفراد عالم كلٌّ منهم يدور في إطار الإشباع المادي للرغبات والحاجات. كأن تمزيق المجتمع إلى أفراد معزولين يحتاج إلى الانتقال من الصحيفة إلى المدونة.

في المجتمع الذي تمثّله الصحافة، لدينا أفرد يعيشون ضمن محدّدات اجتماعية حديثة تصنعها الحقوق والواجبات، ويرسم حدودها القانون. تؤثر عليها السياسات العامة في انعكاساتها الاقتصادية الاجتماعية،

ليس هذا هجاء ينكر الميزات الإيجابية للمدونات، لا سيما حين أضافت وضوحًا وعاطفة إلى أسلوب المقال، إضافة إلى ما مثلته من تمرد على السلطة المركزية للصحافة حين فتحت المجال لأصوات مهمشة كي تنطق، إلا أن المشكلة ظلت في اقتصارها على منظورها الذاتي، وهو منظور يُغيّب الدقة والتوثيق، وبهذا المعنى نرى انتشارًا كبيرًا للشائعات والأخبار الكاذبة، إلى جانب إلغاء فكرة الجدل لأن الهدف الكبير هو الحصول على الإعجاب، فنرى بوضوح أن أكثر الناس تأثيرًا هم الذين يتحدثون بما هو ثابت ومتفق عليه اجتماعيًا، لا من الفئات التي تريد تقديم أفكار ما هو معروف برؤية جدلية جديدة. إلى جانب ذلك، تصب الكتابات التدوينية في الأهداف التي تسعى المنصات لتحقيقها، وهي تحويلنا جميعًا إلى ينابيع خصبة من البيانات القابلة للاستثمار، في كل ما يتصل بنا، في فرحنا وخوفنا وحبنا ووحدتنا وذوقنا..

لم يعد الناس يشترون الصحيفة، بل باتوا يكتبونها. لكن ذلك حدث حينما صاروا أفرادًا برغبات استهلاكية متجانسة، لا مجتمعًا يوحّد الذوات المختلفة ضمن أطر حديثة ويترك المساحات الخاصة لحرية كل فرد.