08-مارس-2023
الكاتب صلاح عيسى

الكاتب صلاح عيسى

في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وقّع صلاح عيسى زاوية يومية في جريدة "الجمهورية" المصرية بإمضاء "المقريزي" وأسماها "هوامش"، وقد صمدت لسنوات في مواجهة احتجاجات ودسائس وانتقادات حادة، ذلك أن "هوامش المقريزي" استعارت من التاريخ قصصًا وشخصيات ووقائع مع إسقاطات على الواقع الراهن لا يخطئها أحد.

ولقد كثفت هذه التجربة الملامح الأساسية في مسيرة صلاح عيسى الصحفية، حيث توأمة الصحافة والتاريخ، ووضع أحدهما في خدمة الآخر على التناوب، فبقي الصحفي يعمل في ظلال التاريخ وبوحي منه، كما بقي المؤرخ شغوفًا باستخدام الأنواع الصحفية في سبيل الوصول إلى الناس، ومن أجل وصل الماضي بالحاضر.

في كتاب "حكايات من دفتر الوطن"، يجمع عيسى الولع بالتاريخ إلى الأسلوب الصحفي الرشيق إلى الافتتان بفن القص. يختار وقائع تاريخية من مراحل مختلفة ويعيد صياغتها في قوالب حكائية

وتأريخ عيسى لا يحفل كثيرًا بسير الزعماء والقادة والأفراد، وإنما يذهب إلى تحت هذا السطح، إلى داخل المجتمع حيث التيارات البحرية العميقة هي التي تحرك فعلًا تلك الأمواج التي تظهر في الأعلى، فنراه يهتم بالصورة البانورامية العامة، حركة الطبقات وصراعها، وتبدل المواقع بين المكونات والشرائح. والفرد عند عيسى هو نتاج كل ذلك، إذ لا يمكن لسيرة الشخص أن تنفصل عن سيرة طبقته وبيئته.

في كتابه "رجال ريا وسكينة" يظهر هذا المنهج جليًا، فالأختان الشهيرتان، والرجال الذين أحاطوهما، لم يكونوا نبتًا شيطانيًا، ولا ظاهرة خارقة، كما لم يكونوا تجسيدًا لطبع إنساني جوهري لا تاريخي هابط من السماء.. كانوا أبناء بيئة محددة وشريحة بعينها في مرحلة من التاريخ المصري لها سمات اقتصادية واجتماعية خاصة ومؤثرة. وبالطبع دون أن يصل هذا التحليل إلى درجة الجبرية الاجتماعية، إذ يبقى دور هام لاستجابة الفرد للظروف المحيطة وفق تكوينه الشخصي وشروطه السيكولوجية.

ولد الصحفي والمؤرخ المصري صلاح عيسى في 4 تشرين الأول/أكتوبر عام 1939 في قرية "بشلا" بمحافظة الدقهلية. حصل على بكالوريوس في الخدمة الاجتماعية عام 1961. بدأ حياته كاتبًا للقصة القصيرة، ثم اتجه للكتابة في التاريخ والفكر السياسي والاجتماعي، قبل أن يتفرغ للعمل بالصحافة، حيث أسس وشارك في تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات. كان من رموز اليسار المصري، وقد اعتقل وفصل من عمله بسبب آرائه السياسية أكثر من مرة. أصدر عددًا وافرًا من الكتب، أبرزها: "حكايات من دفتر الوطن"، "تباريج جريج"، "مثقفون وعسكر"، "دستور في صندوق القمامة"، "رجال ريا وسكينة"، "مجموعة شهادات ووثائق لخدمة تاريخ زماننا"، "بيان مشترك ضد الزمن".. وتوفي عام 2017 عن عمر 78 سنة.

في كتابه "حكايات من دفتر الوطن"، يجمع عيسى الولع بالتاريخ إلى الأسلوب الصحفي الرشيق إلى الافتتان بفن القص. يختار وقائع تاريخية من مراحل مختلفة ويعيد صياغتها في قوالب حكائية، بنبرة مرحة وسرد خفيف الظل. وليس الإمتاع هو الغاية الوحيدة بالطبع، فللحكايات دلالات بالغة الأهمية، تتصل بالحاضر اتصالها بالماضي.

 في حكاية "السلطان وقضاة الشرع"، مثلًا، نعايش مرحلة من التاريخ العربي والمصري (العصر المملوكي) غاب عنها مفهوم القانون غيابًا تامًا، كما غابت مسؤولية الحاكم وواجبات الحكم، وتحول السلطان إلى أداة قمع ونهب، فانهارت الأخلاق وضاعت القيم والمعايير وعمت الفوضى، وصار الفساد هو الدين الرسمي للدولة والمجتمع.. هل هي حكاية عن العصر المملوكي فقط؟!

يستعرض كتابه "شخصيات لها العجب" سير أكثر من أربعين شخصية مصرية وعربية تتوزع على مجالات متعددة: السياسة والأدب والفن والصحافة.. وهو يفرد الفصل الأخير للحديث عن شخصيات روائية مشهورة من أعمال نجيب محفوظ. وهنا أيضًا، فحكايات هؤلاء الأشخاص هي قطع من لوحة كبيرة هي تاريخ مصر والمنطقة العربية. وفي روايته لسيرهم فإنما يروي حقبة هامة من تاريخنا المعاصر، تلك التي تمتد على النصف الثاني من القرن العشرين.

 ومن بين الشخصيات الكثيرة هناك: الملك فاروق وفتحي رضوان وعبد الرحمن الرافعي وطه حسين وحسن البنا ومحمد نجيب وصلاح نصر وأكرم الحوراني ومحمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وأنور السادات ويوسف إدريس وفريد شوقي..

صلاح عيسى حكّاء بارع وناقد لاذع ومتهكم من طراز رفيع. أثبت أنه قادر على تجديد أفكاره، وغربلة مواقفه ورهاناته، بفضل رؤية نقدية موضوعية لم تعف تيارًا أو اتجاهًا أو سلطة

يقول عيسى في تقديمه: "هذه شخصيات عامة من النخب السياسية والثقافية.. وهي شخصيات تنتمي في مجملها إلى النصف الثاني من القرن العشرين، وهو الزمن الذي عاصرته، ولعبت هذه الشخصيات أدوارًا على مسرحه وفي مسرحيته، وقف بعضهم في بداية الزمان تحت أضوائه المبهرة، قبل أن تدركه عواصفه وتقلباته، فيتراجع من مقدمة المسرح إلى خلفيته.. بينما يزحف آخرون إلى مقدمة المسرح ليلعبوا أدوار البطولة فيما استجد من فصول مسرحية التاريخ، إلى أن تدور عليهم الدائرة.. ولا يبقى من هؤلاء وأولئك إلا خبر ينشر في صفحة الوفيات".

يعرض الكتاب لتجارب أسماء علقت في أسر التاريخ، وجابهت عواصف المحيط العاتية، بعضها واجه بشجاعة وإقدام، وبعضها ناور واحتال، وبعضها سقط في منتصف الطريق.. ويبقى الممتع هو حكاية ذلك التقاطع بين اتجاه التاريخ وبين حياة شخصية محددة، بين العام وبين الخاص.. كما يبقى من المثير للتأمل كيف يصنع التاريخ البشر فيما هم يحاولون صناعته.

صلاح عيسى حكّاء بارع وناقد لاذع ومتهكم من طراز رفيع. وإضافة إلى قراءاته المتنوعة والغزيرة، هناك تجربة حياة عريضة وغنية، عرف فيها أعلامًا في مختلف المناحي والتخصصات، ما جعل كتابته "غرف" سهل من بحر شاسع لا ينضب.

ولقد أثبت أنه قادر على تجديد أفكاره، وغربلة مواقفه ورهاناته، بفضل رؤية نقدية موضوعية لم تعف تيارًا أو اتجاهًا أو سلطة.. وإن كان للبعض منا الحق في التحفظ على مفردات عديدة ظلت عالقة في خطابه، قد يرون أنها باتت تنتمي إلى زمن مضى وانقضى.. وتندرج في سياق تجربة تاريخية يعتقدون أنها فشلت..