23-يناير-2018

مقطع من لوحة لـ سعد الربضي/ الأردن

سنة ونصفٌ منها مرت على تواجد أحمد في بلاد الألمان. ثمانية عشر شهر تلاشت في فضاء الترح، فلا قيمة لوقت يمضي في الوحشة من نصفه الآخر، ولا امتداح للأمان بينما تقبع زوجته في بلادٍ تتلاعب به الحرب منذ سنوات.

أحمد سوريٌّ ذو وجه مستدير، أسمر البشرة يغطي رأسه شعرٌ جارف السواد بدأ يغزوه الشيب ليحتل أجزاء بسيطة منه. في إحدى الأيام الغابرة وبعد أن حلّ الغسق أُخبر أحمد أن تقريرًا مخابراتيًا قد كُتب عنه سبب نشاطاته السلمية ضد النظام، وأنه يُرجى اتخاذ الإجراءات اللازمة كي لا يتم اعتقاله، فما كان عليه سوى أن يهجر زوجته كرهًا ويترك رياح القدر تحمله لتسقطه كريشة تتمايل في الهواء كالثمل في إحدى بلدان الشتات، ويلد بعدها استهلال تشعّب الزوجين.

بعد أن تجشّم المشاق أصبح أحمد في بلاد الألمان لتفصله ملايين حكايات الحب عن زوجته في دمشق، ومع مرور قرابة عام حصل على حق الإقامة لثلاث سنوات ليصبح بذلك لاجئًا من الدرجة الأولى ذا حقوق عديدة من بينها حق التئام الشمل.

اضطلع أحمد بمهامه فور الاعتراف به كلاجئٍ، وقام بتقديم طلب التئام شمله بزوجته حتى تم قبوله. في البداءةِ كان الارتياح وضّاحًا على أمارات وجهه، إلى أن ظهرت إشكالية حجز مواعيد المقابلة في السفارة الألمانية بلبنان. علم الزوج أنه لا إمكانية لأي مقابلة لزوجته إلا بعد سبعة أشهر، فما كان منه سوى أن يذعن للأمر الواقع ويتخذ العُرْف صاحبًا لنفسه يتسربل به بين الفينة والأخرى.

اليوم وبعد أن أمضى أحمد ساعات عديدة في مراجعة بعض الدوائر المعنية بشؤون اللاجئين، غطَّ في سُبات عميق ليخيم السكون على مشهد اليأس والوحشة منذ قرابة الثلاث ساعات.

يرزأ سهم الساعة فجاءَة مرمى الوقت المُحدد للاستيقاظ ليتماوج رنين المنبه ما بين جدران غرفة أحمد ويهدم ذلك السكون، ثوانٍ معدودات كانت كافية ليبلغ الدوي مقر السمع بعد أن خطف الصيوان موجاته الهاربة في كل اتجاه. يفيق أحمد ثم يُخرس المنبه بأصابعه ليجثم على بطنه تحت الغطاء. يحبس كميات من الهواء في صدره ثم يطلق لها العنان. ينهّد ثم يتمتم" ما الذي حدث بحق السماء؟".

ينتابه شعور أملس بعد رؤيته. لقد توقّر أثناء سُباته والتأم شمله بزوجته في حلمٍ مرّ عليه كالطيف، لامس فيه يدي زوجته الناعمتين وأمسك بهما كالطفل الذي يتشبث بثياب أمه خوفًا من فقدانها. قبلات عدة كانت ربما تشفي غليل تشعّبهم، إلا أن روحه الحائمة في دنيا الأحلام خُطفت لتعود إلى واقع مؤلم سبب المنبه. "لو كنت على دارية أننا على لقاء لكنت قد رميت هذا المنبه في أقرب حاوية قمامة منذ أيام"، قالها بحسرة لينهض بعدها وينتصب واقفًا.

ازدلف إلى عِلّاقة الملابس ببطء ليكسو جسده بثيابه السوداء التي تملَّكها منذ وصوله إلى ألمانيا، ثم اقتعد على أريكة بيضاء مُلبسة بغطاء أزرق في غرفة الجلوس كي يتصل بزوجته، ليقص عليها مجرى يومه اللعين كما الدأب. أخذ هاتفه وانتقى "حبيبة عمري" ليتصل بها، إلا أن الطرف الآخر في الطبقة الثالثة من هذا العالم لم يُسمعه الصوت الدافئ. حاول مرات عدة حتى تيقن أن زوجته "شام" خارج الشبكة العنكبوتية منذ ساعة.

"سأعاود الإتصال بها في وقت لاحق، ربما تكون نائمة"، قالها في حنايا صدره ثم وثب إلى عالم التواصل الإجتماعي ليستعلم أخبار حصاد الموت في حقل بلاده.

بينما كان يمسح بإبهامه شاشة هاتفه الذكي صادف صورة سوداء حالكة على صفحة الأخ الوحيد لزوجته شام، لجأ إلى التعليقات بَغية معرفة سبب ذاك اللون القاتم ليقرأ عبارات       الرحمة تمطر على روح أنثى.

"إذًا لقد ماتت جدة شام المسنة. لا بدّ من أنها غارقة الآن في النحيب"، قالها بصوت خافت ثم اتصل بوالد زوجته بعد مضي خمسة دقائق. لم يتملَّص الوالد من الرد على مكالمته. أجاب بعد ثوانٍ معدودات من رنين الهاتف: "ألو.. أ.. لووو"، تقافزت هذه الحروف من فيهه بينما كانت شفتاه الجافتان كأرض قاحلة تتراقصان من ثقلِ الفاجعة.

أجاب أحمد "رحمة الله عليها عمي.. جعل الله مثواها الجنة"، ثم استطرد محاولًا مواساته: "عمي.. لقد كانت المرحومة حسنة المعاملة ولم تؤذ أحدًا طوال حياتها، لقد عاشت أكثر من مئة عام وهي". قاطعه والد شام وحجرتي عيناه تغرورقان بالدمع "هل جننت؟ عن أي شخص تتحدث؟ لقد ماتت قرّة عيني شام".

ينتفض أحمد من على الأريكة. ترتجف يداه. يسقط منه هاتفه المحمول ثم يعاود الإمساك به في مشهد لاذ فيه أمل اللقاء بالفرار إلى البرية دون يُدرك أن السماء تحدق به من الأوج. بوجهٍ ممتقعٍ يتلعثم أحمد صارخًا بينما الدمع يتكردح على وجنتيه: "ماذا قلت؟ أعد ماقلته.. أرجوك... أعد ما لفظته".

يسرد والد زوجته بصوت واهن وفي تؤدة اعتمادًا على رواية شهود عيان أن شام كانت قد خرجت قبل ساعة من البيت متوجهة إلى المشفى لزيارة جدتها، إلا أن مركبة عسكرية متهورة تتبعها أخرى، كانت تقل ضابطًا جريحًا، ارتطمت بجسدها العفيف في إحدى شوارع دمشق. تابعت المركبات المسير وأبقتها مع روحٍ ينازعها في نهر من الدماء.

يضرب أحمد هاتفه بعنفٍ على أرضية غرفة الجلوس. تتداخل صيحات الأنين ومشاعر اليأس في مشهدٍ سخام. يحس أحمد بالغثيان. يقضي على ذلك الشعور بين الفينة والأخرى، بينما تتجول آلامٌ في دهاليز الصدر ليواجه صعوبة في التنفس. يرمي أحمد بجسده على السرير دون الاتصال بأي جهة مُسعفة كُرهًا لحياةٍ دون زوجته، ليبقى وحيدًا مع متلازمة القلوب المكسورة لساعات طِوال، داعيًا الله بين الفينة والأخرى أن يُنهي حياته.

بعد أن قاربت الساعة الثانية فجرًا من يوم الجُمعة حل السأم ضيًفا على روح أحمد، ليصعد به إلى السماء. هناك حيث كانت إجراءات التئام الشمل أسرع من التي في الأرض، بعد أن تقدمت شام بطلب التئام شمل تشتت لسنة ونصف.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لم يقتلني شيء كما فعلت الحياة

نيكولا مادجيروف: لن تغير الريح وجهتها