1

ما الذي يجعلنا نُجمع على تعريف الشعر العظيم؟ لماذا نحن متأكدون أن المتنبي والمعري ودرويش شعراء عظماء؟ ولماذا الأمر نفسه مفتوح على الاختلاف حول شعراء آخرين؟

يمكن للشاعر أن يكتب عن كل شيء، مثلما يمكن للروائي أن يفعل، لكن الشعراء يصرون على اعتبار الشعر فنًا ذاتيًا وحسب

الإجابات الممكنة على هذا السؤال كثيرة. لكن مسألة العظمة والخلود وما شابهها، لا تخص الشاعر على الإطلاق، إنما تتعلق باكتشاف قوة هذه النصوص في أزمنة بعيدة عن زمن كتابتها.

لا يوجد شاعر يكتب وهو يفكر أنه يكتب القصيدة الخالدة مهما حاول. إنه يكتب ما يستطيع، ما يمكن.. ونأتي نحن لاحقًا، بعد عقود أو قرون، لنقرر أن ما كتبه قصيدة خالدة، وأنه وصل بها إلى ما لم يصله سواه.

على الشاعر أن يعمل ويكدح وحسب، ويترك التفكير بالنتائج. لكن للأسف، الشعراء من حولنا نتائج عظيمة قبل بذل أي جهد.

2

هناك فن كامل انتهى من الوجود، هو المسرح الشعري الذي عرف عصرًا ذهبيًا، قارب القرن من الزمن، وكتبه كبار الشعراء من أحمد شوقي إلى صلاح عبد الصبور، ولاحقًا معين بسيسو وعبد الرزاق عبد الواحد.

كان هذا الفن الدرامي جذابًا للشعراء إلى حد أنهم أولوه أهمية كبيرة، وحتى إن الذين لم يكتبوه قاموا باستلهامه في قصائدهم مرارًا. نجد ذلك في شعر أمل دنقل. قصيدة "الحداد يليق بقطر الندى" مثلًا. أدونيس لديه ما يشبه ذلك.

لعل الاهتمام بهذا النوع يعود إلى أن شعراء العروض كانوا يرفضون كتابة مسرحية بشكل مباشر، فوجدوا في المسرح الشعري مبررًا. وقد استطاع بعضهم منحه الكثير من الجاذبية.. ربما أغراهم ذلك لأن كبار المسرحيين شعراء؛ المسرح التراجيدي الإغريقي، ومسرح شكسبير...

لكننا الآن ننظر إلى ذلك من زمن آخر. حيث يكاد هذا الفن لا يذكر حتى لو على مستوى الأرشفة، وكأن تلك فنون زمن آخر.

3

يمكن للشاعر أن يكتب عن كل شيء، مثلما يمكن للروائي أن يفعل، لكن الشعراء يصرون على اعتبار الشعر فنًا ذاتيًا وحسب، لا يتحدثون فيه إلا عن أنفسهم، حاذفين من التعبير مساحات واسعة، ومانعين عن قصائدهم هواءً وضوءً ودفئًا وصوتًا.. كان يمكن أن تشكل فرصة أخرى لمزيد من الاتساع في القول والتفكير والإحساس، ومتخلين عن إمكانية التحول إلى حجر وطائر ومدينة، من خلال تقمصها، أو استنطاقها، أو مقاربتها بطريقة ما. ولهذا، كل خسائر الشعر حدثت بسبب الشعراء.

4

ما الأفكار التي تتزاحم في رأس رسام موهوب وهو يقف أمام ذروة من ذرا الفن في عصرنا مثل الغرنيكا؟ وأية مشاعر ملتهبة تلك التي تندلع داخل روائي طموح يطوي الصفحة الأخيرة من "حفلة التيس

أظن أن الأفكار والمشاعر مهما علت وتلونت ستؤول بعد وقت قصير إلى شعور بالعجز، فالأعمال العظيمة التي تسيطر علينا كليًا تنبهنا إلى ما فعلناه ونفعله، لنرى أن بيننا وبينها مسافات وأمداء، ولهذا لن يكتفي ذلك الشعور بالعجز بنفسه، بل سيرمينا إلى الإحباط. لا أمل لأيدينا أن ترسم أو تكتب مثلما رسَم وكتَب الذين نراهم مثالنا الأعلى.

ما لا ندركه سوى بعد زمن أن اللوحة والرواية، كذلك الفيلم والمقطوعة الموسيقية.. التي أبهرت وعينا صارت ملكنا. فنحن أصحاب اللوحة. إنها لنا. ونحن كتّاب الرواية. كل كلمة فيها تنهيدة خرجت من أعماقنا.

حين نصل إلى ذلك الإشراق الدافئ نعرف أنه في يوم من أيامنا سنضيف عملًا آخر، لكن تحت شرط صارم، وهو أن نفهم تلك الأعمال التي نحب فهمًا كاملًا، مثلما يفهم طبيب التشريح كل محتويات الجسد من نظرة، ومثلما يعرف الجندي قطع سلاحه عند تنظيفها معرفة بديهية.

5

هؤلاء الذين يكتبون البديهيات ويظنون أنهم يكتبون استثناءً، في نفَسٍ مدرسي بريء، يرى إلى ممارسة الفن فعلًا من أفعال الخير، وأن من يكتبونه عليهم أن يتحلوا بصفات رومانسية مثل البكاء لذبول وردة، التأثر العاطفي الشديد من مشهد القمر في اكتماله، وربط الحب بمفاهيم إيجابية واعتبار المحبين أرقى درجة من غيرهم، على سلالم المشاعر، من دون التفكير بأن الذين لم يحالفهم الحظ في علاقة هم أيضًا لديهم مشاعر دافئة؛ هؤلاء لديهم تصورات دينية عن الحياة، أقرب إلى مفاهيم الدين الخلاصي، حيث كل شيء أبيض أو أسود، خير أو شر، من دون أدنى تساؤل أو شك في تلك الرؤى، وهم في كثير من الأحيان يكتبون لكي ينضموا إلى حرب النور ضد العتمة، الحب ضد الكراهية.. وهكذا إلى آخر تلك الثنائيات المتعارضة.

على الشاعر أن يعمل ويكدح وحسب، ويترك التفكير بالنتائج. لكن للأسف، الشعراء من حولنا نتائج عظيمة قبل بذل أي جهد

هذه الكتابة طفولية. الكلمة أقرب إلى التأتأة، بمعنى أن صاحبها غير متمكن بعد من اللغة بوصفها وسيلة تعبير، ولهذا ترد في النصوص العديد من العبارات من قبيل: جوع الحب، حزن الزمن، فالمضاف والمضاف إليه يسمحان بوضع أي هراء، دون أن يشكل ذلك معنى واضحًا. مع أن الشعر في أسّه صراع على جبهة المعنى. إنه يذهب إلى اللغة لكي يبتكر معاني جديدة لا تتيحها لغة الاستعمال والتداول، ويخص اللغة لتصبح لها هوية خاصة تجعلها تصلح أن تكون مادة في عمل فني. في حين أن لغة الشعر الساذج هي لغة غير مكتملة أصلًا، هي محاولة للكلام بالإشارات أو بالرموز تعويضًا عن غياب المفردات والتراكيب.

يريد شعراء السذاجة هؤلاء أن يكونوا مهمين في حقل لا يفعلون فيه سوى إعادة كتابة البديهيات.