19-يوليو-2023
مناورة حزب الله العسكرية

(Getty) من المناورة العسكرية الأخيرة لحزب الله

لعله من البديهي أن يكون الكلام عن النزعة الانتصاروية المستمرة بصيغتها الظافراوية على أشد ارتباط بالكلام عن السلاح، والتغنّي به، وباعتماد ما يمكن تسميته مع ياسين الحافظ بالأيديولوجيّة السلاحويّة. خصوصًا وأن السلاح هو جسر الارتباط الحتمي بكل انتصارية متغنية بالصفات القتالية العالية، بصفات الرجولة المركبّة والدقيقة التي لا يكف محور الممانعة عن اتحافنا والتغنّي بها، والمزايدة بشأنها، في كل مناسبة وعند كل منعطف. فهذا المحور لا يكفّ عن استخدام السلاح، بالقوة أو بالفعل، لتهديد الأخصام الداخليين أولًا، بعد أن يتمّم استخدامه على مستوى القول ليبث بعض التهديد الكوني الذي لم يعد ينطلي على أحد، والمتمثّل بتدمير العدو خلال عدّة دقائق. علمًا أن هذه الدقائق هي مجرد بضاعة يمكن صرفها في الاستخدام داخل الدول أكثر من أي مكان آخر، خصوصًا الأراضي المحتلة، ولا يكاد يكون لها أية ترجمة في الخارج، لاسيما وأنها طريقة فعّالة وسريعة لتسكيت كل نقد وكل مقاربة مختلفة في الشأن الداخلي.

لا يتوانى محور الممانعة، سواء بالقيادة الإيرانية، أو السورية، أو بقيادة أمين عام حزب الله وبقية قيادات الصف الأول، عن التغنّي بقدراتهم العسكرية والقتالية الفائقة، وبعديد مقاتليهم، وبعدد الصواريخ القصيرة والطويلة الأمد التي يمتلكونها، وبالعتاد والإمكانات العسكرية والقيم الناجمة عن القدرات القتالية العالية التي استطاعوا فرضها على مستوى النقاش السياسي بعد تحويل مجتمعهم وناسهم إليها. هذا ليس بجديد، ولا هو يخدم وجهة نظر مختلفة عما يسعون هم ذاتهم على تأكيدها. فهم لا يزعجهم كثرة الكلام عن السلاح الذي يمتلكونه، وعن قدراتهم على استكمال الهيمنة، ليس لشيء بعينه بالضرورة بقدر ما هي محاولة مستمرة يمكن أن يوظفوها لتخويف الآخرين والحصول على ما يريدونه منهم في السياسة وفي السلطة دون أي مجهود.

لا يتوانى محور الممانعة عن التغنّي بقدراتهم العسكرية والقتالية الفائقة، وبعديد مقاتليهم، وبعدد الصواريخ القصيرة والطويلة الأمد التي يمتلكونها

هذا الترافق بين الانتصاروية والسلاحوية ليس وليد الصدفة، بل هو متجذّر في التاريخ، كما وأنه متجذّر في الحاضر وفي تلك القراءات اليساروية التقليدوية والسلطوية التي مازالت عالقة في سياق استمرارية مشروع سباق التسلّح الذي كان أحد أهم أسباب ضمور، ولاحقًا انهيار، الاتحاد السوفييتي. فقد عملت القيادة السوفييتية دون كلل أو ملل على بناء ترسانة عسكرية على حساب الاحتياجات والضروريات المجتمعية والإنسانية الأخرى التي لا مجال للدخول فيها الآن. إلا أن المسعى نفسه استمر وظهر في قراءات يسارية شعبوية عملت على التمترس خلف القدرات القتالية، وخلف منطق القوة، وذلك كله في محاولاتها بسط سلطة تزعم مقارعة سلطة الإمبريالية ومنطقها الدولي من جهة، كما تزعم مقارعة ترجمة هذا المنطق الإمبريالي في هذه وتلك من التوجهات السياسية المختلفة محليًا من جهة ثانية. فلطالما حاول محور الممانعة حصر الكلام في موضوع واحد وحيد وهو الاحتلال الإسرائيلي والدعم الدولي الذي يتلقاه من ناحية الإمبريالية، أو حاول عطب المحاولات التغييرية برشقها باتهامات العمالة للإمبريالية عند الكلام على كل محاولة سياسية تغييرية تحاول مقاربة وتسويغ الديموقراطية ومحاولة تطوير المجتمع.

لقد اختصر النزوع السلاحوي وأيديولوجيته كل شيء بالمعركة الخارجية التي لطالما شكّلت مهربًا ناجعًا من المشكلات الحقيقية التي تطال الناس والمجتمع، أي أنها عملت على اختصار كل الأزمات بالقضية الوطنية/القومية بعيدًا عن الصراع الداخلي. فعملت جاهدة على تحويل النقاش والجدال من سياق الصراع على تحديث المؤسسات القائمة، ومن سياق إنتاج مؤسسات جديدة بالإضافة إلى العمل على التحوّل الثقافي الهادف إلى تطوير وتفعيل العقلانية النقدية في مقاربة القضايا المجتمعية وقضايا الشأن العام، والعمل على الانتقال من الثقافة التسليمية التطيريّة والتي ترتبط بنزوع شخصاني كاريزماتي يرتبط بالأشخاص وبالاعتقاد أكثر مما يرتبط بالمؤسسات وبحكم القانون وبالانتاجية والكفاءة.

وقد انتهى ذلك الصراع إلى نزعات قوموية شعبوية هجينة سرعان ما تظهّرت في أنظمة تقليدية دكتاتورية تسلطية لم تعمل على تشكيل دولًا مستقلة حقيقية ديدنها ومعدنها القانون والشرائع والمصالح المجتمعية. ولا استطاعت العمل على صياغة مشروع قومي نهضوي ينتقل بالبلاد العربية من التفتيت الذي عملت الامبريالية على تحقيقه، ونجحت في ذلك، إلى وحدة حال حقيقية تتخطى الحكم المحلي للقيادات البرجوازيات نحو تحالفات شعبية إنتاجية واقتصادية وسياسية وأمنية فوق وطنية.

لم تكن هذه الأيديولوجيّة السلاحوية في أي يوم إلا عدوةً للشعب، خصوصًا عندما تكون هي المشروع الواحد الوحيد، وعندما تكون الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك المشروع، فتُطبِق على كل ما عداها حينما تكون هي المشروع وهي الأداة لتحقيقه. في هذه المعادلة تصبح مقولات "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، و"لا ديموقراطية في ظل الاحتلال"، ولا محاسبة داخلية ومحاربة للفساد في ظل الحرب الدائرة بين الخير والشر، هي الأسباب الرئيسية لإنتاج هذه الدول الفارغة من أي مضمون تنظيمي إلا ما يخدم السلطة القائمة والطبقة الحاكمة وعلى رأسها الرئيس وحاشيته، ولا تعزز إلا وجود مجتمعات حائرة وناس قلقة.

لقد حاولت جماعة المحور، والجماعات اليساروية المرتبطة بشكل أو بآخر بهذا المحور، على تقديم ورفع النقاش حول الوسيلة وإلغاء كل ما عداها، فقد احتصرت كل الصراع مع العدو إلى صراع على مستوى السلاح والقتال ولم تلتفت إلى أهمية الجانب السياسي والإنساني والاجتماعي والتربوي في كيفية بناء مجتمعات متقدمة وأناس أحرار تعمل على جعلهم انموذجًا يشكّل نقطة جذب. بل لطالما عملت على جعل حياة الناس بمثابة جحيم يفرض عليهم أنماطًا واحدة للعيش والحياة، يعزلهم فيها عن الحريات السياسية والفكرية بوصفها انزلاق إلى ما يريده العدو، كما ويعزلهم فيها عن أي مفهوم من مفاهيم ومقاربات العدالة، خصوصًا حينما يخلق طبقات اجتماعية تعتاش على ظهر الطبقات المنتجة الحقيقية.