17-ديسمبر-2019

عالية الفارسي/ عُمان

إنها الساعة العاشرة إلا خمس دقائق، تدخل من باب الصالون، الذي اعتادت الذهاب إليه لتصفيف شعرها، لم يكن هناك زبونة أخرى غيرها، فما زال الوقت مبكرًا لوصول الزبائن، تخلع لحافها الأسود، تُحرر شعرها من قيد المقبض، فينساب على ظهرها كشلال أسود، تجلس بهدوء قلق على المقعد ذاته الذي جلست عليه مرات عديدة لتمشيط شعرها، أو لجلسة حمام الزيت التي تعيد البريق لشعرها، كلما بدا لها متعبًا أو باهتًا، تسألها مصففة الشعر عن الخدمة التي ترغب في تقديمها لها، فترد عليها بكلمة واحدة:

- قصّيه..

تعيد لها مصففة الشعر السؤال لتتأكد من أنها سمعت الكلمة بشكل صحيح.

- قصّيه..

تأتي لها مصففة الشعر بصور لقصّات تناسب الشعر الطويل، لكنها لا تنظر إليها، تغمض عينيها وهي تقول:

- قصيه "Boy cut".

- لكنَّ شعرك طويل وكثيف، حرام تقصيه بهذا الشكل.

- سيغفر الله لي، قصّيه، قصّيه..

تكررها أكثر من مرة وهي مغمضة العينين، قصّيه.

*

 

تبدأ المرأة في الصالون بتقسيم الشعر إلى خصلات، تلقم المقص إحدى الخصلات لكنه يجبن عن الاستجابة، فلا يأكلها ولا يقتطعها، تبدأ بتقسيم الخصلة الواحدة إلى خصلات أصغر حتى يتمكن المقص من قصها، تستمع إلى صوت المقص وهو يأتي على شعرها خصلةً خصلةً، صوت أشبه بصوت منشار، تتساقط الخصلات السوداء الطويلة أمام عينيها، تمد يدها، تقبض على إحدى الخصلات الساقطة، فتضمها بين كفيها، ترفعها لأنفها وتشمّها طويلًا، تشمّ فيها رائحة المخمرية * بالعود والزعفران والصندل، والتي ما زالت عالقة فيه منذ أن دهنته بها قبل أيام، تتأمل شعرها المتساقط على بلاط الأرض الباردة المصقولة ببلاط أسباني لامع.

حتى الأمس كان يلامس ردفيها، يصل حتى وركيها، يستر عري ظهرها وهي ترتدي فساتينها المكشوفة في حفلات الأعراس وسهرات الصديقات، تحسدها الجالسات كلما أزاحت "الشيلة" وتركته مفتوحًا أمامهن، فيسقط كشلال أسود ثائر.

كان يعجبه شعرها وكأن لا شيء يعجبه فيها أكثر منه، تشعر بحنان لمسته كلّما عبث به. تثق أنه سيحبّها بأي شكل كانت، بشعر طويل أو قصير، تغمض عينيها، فلا ترى شيئًا سوى وجهه الأسمر المليء بالشامات، والتي كثيرًا ما تسلّت بعدّها، وتقبيلها شامةً شامة.

تقاوم رغبتها في الغثيان الذي بدأت تشعر به في الفترة الأخيرة، تسمع صوت المقص وكأنه يقتطع جزءًا من روحها، المقص الذي لم  تتجرأ يومًا عى أن تقرّبه من شعرها إلا بما يلامس أطرافه، فيزيده ذلك سحرًا أنثويًا طاغيًا. كلما قصّته من الأطراف كان يزداد طولًا وكثافة، إنه السحر الأسود كما تطلق عليه إحدى صديقاتها، شعرها الذي اعتنت به أمها، فلم تقصه لها إلا من الأمام لتصنع لها غرّة تغطي بها جبهتها العريضة.

المرة الوحيدة التي قصت لها أمها شعرها حينما اكتشفت وجود القمل فيه، بعد أن أصيبت بالعدوى من المدرسة، فكيف  تنسى ذلك اليوم وقد بكت وانتظرت طويلًا حتى استعاد شعرها عافيته وطوله، وكيف لها أن تنسى ومنذ ذلك اليوم قد بدأت ارتداء الحجاب ليس لأنها بلغت مبلغ النساء؛ ولكن خشية منها على شعرها من عدوى أخرى.

*

 

في يوم جمعة، تجلس أمام أمها في مجازة * الحارة وقد غطت شعرها الطويل برغوة بيضاء من شامبو أصفر اللون، له رائحة حلوى الليمون، تغمض عينيها كما تأمرها، حتى لا يدخل الصابون فيهما، لكنها لا تطيق صبرًا، فتفتح عينيها قليلًا لترى أجساد النساء العاريات الموجودات في ساقية الفلج وهن يفركن أجسادهن بقطع من صابون "لايف بوي" الأحمر، تشعر بحرقة في عينيها، فتغسلهما بالماء سريعًا، تعيد إغماض عينيها، تشعر بالماء دافئًا وهو ينسكب على شعرها وكل أجزاء جسمها، وحينما تخرج من الماء، تجلس خلف مصلّى النساء مع بقية الفتيات اللاتي يتشمّسن معها حتى تجف شعورهن المغسولة وهن عاريات تمامًا، دون أن تشعر إحداهن بالخجل من الأخرى.

تبتسم وهي تتذكر أحاديث النساء اللواتي كنّ يغسلن شعورهن الطويلة داخل ساقية الفلج، يتغامزن ويتهامسن دون أن تستوعب مما يقلنه شيئًا، تتذكر صوت ضحكهن الماجن الذي لا تسمعه إلا في المجازة بسطحها المكشوف، فيعجبها أن تستلقي في الساقية، تاركة شعرها ينام على سطح الماء بكل هدوء، فتجد في ذلك  فرصة لتأمل السماء وقمم النخيل الحبلى بثمار الرطب والذي يتساقط بعضه على ماء الفلج، لكنها سرعان ما حُرمت من تلك المتعة المجّانية بعد أن وُضع سقف من سعف النخيل على سطح المجازة، لأنهم اكتشفوا أن رجلًا كان يصعد إلى قمم النخيل ويختبىء هناك لينظر إلى أجساد النساء العارية.                                                   

تغرق في تلك التفاصيل، تتذكر كيف كانت تشعر بالزهو كلما أغلقت على نفسها باب غرفتها، وفتحت شعرها المضموم بعناية في كرة قابلة للانفلات، تطلقه حرًا ثائرًا كثورة روحها، ليتحوّل إلى موجة ثائرة في لحظة، تسقط بعض الخصلات على وجهها، فتغطي إحدى عينيها الضيقتين الناعستين في كسل، وتلك البثور التي تملأ أعلى خدها.

*

 

تنتبه إلى صوت المرأة التي تقص لها شعرها وهي تقول لها نعيمًا، تعود من دهاليز ذاكرتها متعبة منهكة، تنظر للأرض تحت قدميها وقد غطتها خصلات شعرها الأسود، تشاهد صورتها في المرآة وكأنها ليست هي بقصة الشعر الجديدة، تدس في يد المرأة مبلغًا من المال، أكثر من المبلغ الذي طلبته منها، تحاول المرأة إرجاع المبلغ الإضافي، فتشير لها بيدها أن تتركه معها، تشكرها بينما تلف شيلتها السوداء، تخرج مسرعة دون أن تنظر للخلف، تسرع في سيرها، تتجه صوب سيارتها كي تحضر جلسة الكيماوي الأولى بعد اكتشاف إصابتها بالسرطان.

 

هوامش:

  • المخمرية: خلطة من العطور والزيوت، يدهن بها الشعر، خصوصًا وقت المناسبات والأعراس.
  • المجازة: حمّام عام للنساء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

خمس دقائق من أجل الحرب

أعود إلى ما خبّأتُ من أيامٍ