27-أبريل-2018

التاكسي الذي يمارس الأفعال كلها ما عدا القيادة كالكاتب الذي يمنحك كل شيء إلا النص الجيد (wanderlust)

أدينُ لسائقي السّيّارات بكثير من الفضل في تغذية نصوصي السّرديّة. وقد نقلتُ ذلك في كتابيّ "عطش السّاقية" (2010)، و"يدان لثلاث بنات" (2017). غير أنّني أكره السّائق الثّرثار على خواء، فلا هو يعطيك مادّةً إنسانيةً في أحاديثه، ولا هو يتركك تتأمّل ملامحَ/ ملاحة الإنسان والمكان.

ما أشبه سائقًا يُمارس الأفعال كلّها ما عدا أن يسوق، بكاتب يمنحك كلَّ شيء ما عدا النّصّ الجيّد!

في الفضاء الخليجي، يكتفي السائقون المستقدمون عادةً من دول آسيا، بالإجابة على أسئلتك. ولا يتجاوزون ذلك إلى الأسئلة حتّى وإن أشعلهم الفضول. فقد رأيت، مثلًا، كلّ السائقين، الذين تعاملتُ معهم في كلّ رحلاتي، يلتهمون ريشتي بأعينهم، ويتهامسون عنها فيما بينهم، لكنّهم لم يعملوا على أن يسألوني عنها. مع هذا النّوع من السّائقين، يُمكنك أن تقرأ أو تكتب أو تنام أو تَتَفَسْبَكَ أو تُهاتف، من غير مضايقة أو خسارة للوقت في أحاديثَ لا تعنيك.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرزاق بوكبة.. معول الشعر في أرض السرد

سافرت مع سائق هنديّ هذه المرّة. ولأنّ الطريق طويلة (أحبّ تأنيث الطّرق)، فقد استعملتُ خبرة السّارد فيَّ وحيلَه في دفعه إلى أن يُبادلني الحديث. فليأخذني، على الأقلّ، في رحلة بسيطة إلى قارّة الهند المعقّدة. لكنّني فشلتُ في ذلك فشلًا لذيذًا، ذلك أنّني تعوّدتُ، من خلال تجاربي السّردية السّابقة، على ترويض نفسي على الاستمتاع بانغلاق الرّاوي على نفسه. إنّ ذلك يجعل اجتهادي في استنطاقه أكبر، وهو ما يُطوّر خبرتي السّردية أكثر.

أليس مثيرًا للاجتهاد أن تكون رفقة إنسان هنديٍّ مؤهّلٍ لأن يضع الهند بين يديك، ولكنّه يكتفي بممارسة الفعل الذي جاء من أجله فقط: القيادة الجيّدة؟ ما أشبه سائقًا يُمارس الأفعال كلّها ما عدا أن يسوق، بكاتب يمنحك كلَّ شيء ما عدا النّصّ الجيّد!

لو كان قانون المرور إنسانًا، لحدّثني عن الاحترام الذي يحظى به هنا في الفضاء الخليجي. ولو كان الوقت كذلك لحدّثني عن استمتاعه بالقداسة، التي يُعامله بها السّائقون فيه.

ابتسمتُ حين تذكّرتُ السّائقين، الذين تعاملتُ معهم في المهرجانات الجزائرية. وكيف أنّهم كانوا يدوسون على قانون المرور، اعتمادًا على شارات المهرجان المثبّتة على الزّجاج الأماميّ لسيّاراتهم. (لماذا يُعدّ حاملو الشّارات الرّسمية أوّل من يدوس على القوانين في الجزائر؟). 

ويتأخّرون كذلك عن المواعيد، بما يُخلخل برنامج النشاطات والضّيوف، وفي أفواههم كذبة جاهزة، مثل: أمّي مريضة، أو زوجتي في مستشفى الولادة، أو ابني محموم. لقد جعل كلُّ السّائقين، الذين تعاملت معهم أمّهاتِهم يمرضن، حتى اليتامى منهم، وزوجاتِهم يلدن، حتى العزّاب منهم، وأولادَهم يُصابون بالحمّى، حتى الذين لم يمضِ ربعُ عامٍ على زواجهم!     

قابل السّائقُ الهندي ابتسامتي بابتسامة. كأنّه قرأ ما دار في ذهني، (أكره كلمة "خلدي"، وأدعو إلى إحالتها للمتحف اللّغوي. لماذا لا ننجز متحفًا للمفردات والصّيغ اللّغويّة، التي تجاوزها الزّمن؟)، فطمعتُ في أن تكون ابتسامتُه فاتحةً لانخراطه في الحديث معي. أيضًا فقد روّضتُ نفسي على أن أستمتع بتخييب الرّاوي لي. فكدتُ أقول له: إنّ الكاتب الذي لا يستمتع بتخييب الرّاوي له، فيستنجد بالخيال العظيم؛ سيُخيّب بدوره متلقّيه.

إن الكاتب الذي لا يستمتع بتخييب الراوي له، فيستنجد بالخيال العظيم؛ سيُخيِّب بدوره متلقيه

إنّ تخييب الرّاوي لكاتبه/ سامعِه، يخلق فيه عزةَ نفسٍ ذاتَ طعم خاصّ، فيعمل على تفادي الإحساس بالفشل بجعله يتحدّث في خياله. وهو المقام الذي يلتقي فيه الواقع والخيال لينجزا معًا النّصّ الأدبي النّاضج.

مثلًا: ليس من حقّ أيٍّ كان أن يُكذّب كوني سافرتُ اليوم إلى الهند. "Oh my god" ما أكثر التّوابل هنا!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الجزائريون لسائق الأجرة: "نثق بك"

سائقو الركشة يعاقبون بالجلْد!