04-يناير-2020

الإيقاع الحركي مساهم رئيسي في بناء المخ والجسد (نيويورك تايمز)

الرقص مشترك بشري كوني، فهو حاضر في الثقافات البشرية قديمها وجديدها، ويلعب دورًا مركزيًا في الثقافات ذات الأصول ضاربة القدم في التاريخ.

يكتشف العلماء باستمرار الدور المحوري الذي تلعبه الحركة الجسدية في تطور البشر وفي النمو النفسي والاجتماعي للأفراد الأصحاء 

والدليل على ذلك حاضر في الأعمال التصويرية المبكرة على الصخور وجدران الكهوف من فرنسا إلى جنوب أفريقيا إلى الأمريكتين، ومسجل في الحمض النووي لكل طفل يتمايل مرحًا على أنغام إيقاع ما أو أغنية، حتى قبل أن يستطيع السير أو الحديث أو التفكير في نفسه كذات مستقلة. فما سبب ذلك؟ هذا محط نقاش السطور التالية، المنقولة بتصرف عن موقع "aeon".

 اقرأ/ي أيضًا: لماذا يعد الجسد الراقص "حركة" سياسية؟


ظل الرقص ممارسة حيوية ومتوارثة في كل أنحاء العالم حتى وقتنا الحاضر: في الأحياء السكنية ومسارح الحفلات وفي الشعائر والطقوس الروحانية والاستشفائية، وحتى في الثورات السياسية.

ورغم جهود الأوروبيين والمستعمرين الأمريكيين على طول قارات الكوكب، لأكثر من 500 عامًا، في محو تقاليد الرقص للسكان الأصليين وتهميش الرقص في مجتمعاتهم؛ يستمر البشر في الرقص أينما وجدوا.

وأي إجابة على سؤال "لماذا يرقص البشر؟" يجب أن تشرح سبب انتشار الرقص في كل زمان ومكان. وكل إجابة تطمح لتقديم إجابة على هذا السؤال، ستصطدم لا محالة بالمفهوم الغربي للكائن البشري وسيادة العقل على الجسد في تشكيل هوية الفرد وفاعليته.

تفسيرات قاصرة للرقص

التفسيرات السائدة لسبب رقص البشر، تميل إلى اتباع إحدى مقاربتين. تبرز المقاربة الأولى بين دوائر علم النفس والفلسفة، وتعتبر الإنسان فردًا يختار أن يرقص للترفيه أو التمرين أو التعبير الفني أو لأي أسباب شخصية أخرى. تفترض مثل هذه المقاربات أن الرقص هو واحد من نشاطات عدة تقدم للإنسان الفرد منافع ربما تكون مرغوبة، لكنها ليست ضرورية لرفاهيته وسعادته النفسية.

الرقص

في المقابل تركز مجموعة من التفسيرات الاجتماعية والأنثروبولوجية على الجماعة، معتبرة أن الرقص هو إحدى أقدم الوسائل التي استعملها البشر لتقوية الروابط فيما بينهم، بغض النظر عن قرابة الدم.

ووفقًا لهذه التفسيرات، يتزحزح الرقص من مكانته هذه لتحل مكانه وسائل أكثر عقلانية وفاعلية للترابط الاجتماعي، وهي وسائل لم تكن لتوجد دون الرقص، مثل اللغة والقواعد الأخلاقية والدين.

وفي حين تعاني مقاربات النوع الأول في تفسير سبب اختيار عدد كبير من البشر الرقص، تتعثر الثانية في تفسير سبب استمرار البشر في الرقص حتى الآن.

الرقص من وسائل البقاء والتطور؟

ماذا لو كان البشر من الكائنات التي استطاعت بقدرتها على الرقص (مثل بعض الطيور والثدييات) أن تطور أدمغة كبيرة معقدة وقلوبًا عطوفة وقدرة على التكيف البيئي؟ ماذا لو كان الرقص يستمر في تأدية هذا الدور حتى الآن؟ وماذا أيضًا لو كان البشر مخلوقات تطورت ليكون الرقص شرط وجودها الجسدي؟

تتعاضد الدلائل على هذه الأطروحة من مختلف المجالات العلمية والبحثية. ومرة تلو الأخرى يكتشف العلماء الدور المحوري الذي تلعبه الحركة الجسدية، ليس فقط في تطور الفصيلة البشرية، بل كذلك في النمو النفسي والاجتماعي للأفراد الأصحاء في العصر الحديث.

لكن ليست الحركة الجسدية وحدها المهمة في هذه الحالة، وإنما نشاطٌ له ثلاثة جوانب أساسية:

  1. ملاحظة أنماط الحركة وإعادة تكرارها.
  2. تذكر هذه الأنماط الحركية ومشاركتها.
  3. استخدام أنماط الحركة هذه كوسيلة للإحساس والاستجابة.

هذه الجوانب الثلاثة الأساسية، هي التي تمارسها كل تقاليد وفنون الرقص، وتُعلّمها.

الحركة الجسدية تبني العقول

في كتابة "I of the Vortex"، يقول رودولف ليناس، عالم الأعصاب في جامعة نيويورك، إن الحركة الجسدية تبني العقول. ما يحدث أن المخ يتشكل عبر تسجيله لأنماط التنسيق العصبي العضلي، ثم يتذكر المخرجات على شكل ألم أو لذة، وهي العلامات العاطفية التي تساعده على تقرير إن كان عليه تكرار هذه الحركة مجددًا، وإن كانت الإجابة هي نعم، فكيف يفعل ذلك.

ولأن الحركة الجسدية تبني العقل، فكل حركة يقدم عليها الإنسان تكتسب أهمية كبيرة، إذ إن كل تكرار لحركة ما يعمق ويقوي نمط التنسيق بين العقل والجسد الذي يتطلبه القيام بتلك الحركة، ثم يحدد التكرار المسارات المستقبلية التي يسير فيها انتباهنا وطاقتنا.

كل حركة يقوم بها الجسد، ويتذكرها، تحدد كيفية نمو الكائن وما يستعشره، وكيف يستجيب له. ومن هذا المنظور، يصبح كل جانب من جوانب الذات الجسدية للإنسان، ابتداءً من الأزواج الكروموسومية، مرورًا بإحساس العضو، إلى شكل الأطراف، هي قدرة على الحركة تتطور عبر عملية حركتها نفسها.

بتعبير آخر: الذراع تصبح ذراعًا بفضل الحركة التي تقوم بها منذ تشكلها في الرحم. هذه الحركة هي التي تحدد شكل العظم والعضلات، عبر تكليف الخلايا ببناء الشكل الفسيولوجي الذي يلبي متطلبات هذه الحركة.

الرقص

إذًا، يمكن القول إن الكائن البشري هو نتاج إيقاع التشكل الجسدي. يَخلق الإنسان دائمًا أنماطًا من الحركة الجسدية، بحيث تتجلى كل حركة جديدة من مسار ابتدأته حركات سابقة. وهكذا، قد يكون الرقص وسيلة مهمة للمساهمة في إيقاع التشكل الجسدي هذا.

هذه الأطروحة تدعمها الدراسات الأنثروبولوجية والنفسية التي وثقت أهمية الحركة لنجاة الطفل الرضيع. وكما تؤكد الأنثروبولوجية سارة بلافر هردي، في كتابها "Mothers and Others"، يولد الأطفال البشريون أقل نضجًا من أقرانهم من الرئيسيات الأخرى. 

ولكي يكتسب الجنين البشري نفس النضج العصبي والعضلي الذي لدى صغير الشمبانزي مثلًا، وهو في الرحم، عليه أن يظل هناك لـ21 شهرًا. في المقابل، على الرضيع البشري قليل الحيلة، أن تكون لديه القدرة على تأمين ولاء من يرعونه، في وقت تكون فيه وسيلته الوحيدة لفعل ذلك، هي ملاحظة وتكرار أنماط الحركة التي نجحت في جذبهم إليه، وتوصيلهم به في المقام الأول.

ومن وجهة نظر هردي وغيرها من العلماء، فإن هذه القدرة على الاستجابة التكرارية لأنماط الحركة الجسدية، هي مصدر التذوات (الذاتية المشتركة) لدى البشر. أي أن الطفل يبني عقله خارج الرحم باتصاله بالآخرين المتحركين عبر ممارسة قدرته على الرقص.

أن ترقص يعني أن تكون بشريًا

تدعم الأبحاث الحديثة حول العصبونات المرآتية، فكرة امتلاك البشر مقدرة فريدة على ملاحظة أنماط الحركة وتذكرها وتكرارها. تستثار هذه العصبونات المرآتية -وهي موجودة في العقل البشري أكثر من أي حيوان ثدي الآخر- عندما يلاحظ الشخص حركة. وتخلق التنسيق العصبي العضلي المطلوب لتكرار تلك الحركة.

وبهذه الطريقة يتعلم البشر تكرار حركات الآخرين. والآخرون ليس المقصود بهم البشر فقط، وإنما حتى النباتات والحيوانات المفترسة وغير المفترسة والأنهار والشمس والنار. وكما كتب عالم الأعصاب فيلاينور راماشاندران، في كتابه "The Tell-Tale Brain"، يبدو أن العصبونات المرآتية هي مفتاح تطور ثقافتنا بأكملها، عبر سماحها للبشر "بتبني وجهات نظر الآخرين والتعاطف مع بعضهم البعض".

ومع ذلك فإن لفظ "مرآتية" مضلل قليلًا، لأنه يخفي فاعلية الحركة الجسدية. لا يقدم الدماغ تأملًا سلبيًا، فأثناء تسجيل العين للحركة، ما يراه المرء مستعينًا بإدراكه الحسي، هو أن الحركات السابقة ساعدته على النمو. وهو يستجيب لذلك عبر مسارات الانتباه التي بدأتها حركاته السابقة.

الرقص

من هذا المنظور، يصبح الرقص مقدرة بشرية، وليس مجرد نشاط يمارسه البشر. وهي مقدرة يجب على الإنسان ممارستها لبناء المخ والجسد، وليكون قادرًا على بناء علاقات مع عناصر البقاء الموجودة في بيئته وثقافته. بتعبير آخر: أن ترقص يعني أن تكون بشريًا.

في ضوء هذه الأطروحة، فإن كل أسلوب أو تقليد رقص يمثل مسارًا للمعرفة، مجموعة متنامية على الدوام من أنماط الحركة المكتشفة والتي يتم تذكرها لقدرتها على صقل قدرة الإنسان على الحركة.

الرقص مقدرة يجب على الإنسان ممارستها لبناء المخ والجسد وبناء علاقة مع محيطه وبيئته، فأن ترقص يعني أن تكون بشريًا

والأهم من ذلك أن الرقص يقدم للبشر فرصة لتعلم مدى أهمية حركاتهم، ويعينهم على إدراك الطريقة التي يدربهم بها الرقص على تشكيل الوعي الحسي اللازم للتعاطف مع البشر والأرض نفسها. وفي هذا الإطار فإن الرقص فن حيوي، فمن منظور التشكل الجسدي، ليس بوسع البشر إلا أن يرقصوا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

التحطيب والتنورة في مصر.. تراث شعبي من أثر القتال والروحانية

أكثر من فن.. كل شيء عن العلاج بالرقص والتصوير والرسم