29-مارس-2018

"مدرسة أثينا" لـ رافائيل

كلنا نبحث عن الحياة السعيدة، ونعمل بكد لأجلها ونبحث السبل لتحقيقها، لكن ربما لم يخطر ببالنا أن نتساءل عن ماهية الحياة الجيدة؟ سؤال بسيط كما يبدو، لكنه يعد واحدًا من أقدم الأسئلة الفلسفية، التي تم طرحها بطرق مختلفة، وقدم الفلاسفة حولها رؤى متباينة، نجملها في هذه التصورات.

الحياة السعيدة هي الحياة الأخلاقية

كان المفهوم الأخلاقي للحياة الجيدة حاضرًا بقوة لدى فلاسفة الإغريق الأوائل، حيث كان يعطي كل من سقراط وأفلاطون أولوية مطلقة للشخص الفاضل على جميع الأشياء الجيدة الأخرى المفترضة مثل المتعة أو الثروة أو القوة.

الشخص الفاضل في نظر فلاسفة اليونان هو ببساطة الشخص الجيد الذي يتسم بخصال مثل الشجاعة والصدق

الشخص الفاضل في نظر فلاسفة اليونان هو ببساطة الشخص جيد الذي يتسم بخصال مثل الشجاعة والصدق والأمانة والإيثار والإخلاص والكرم، وما إلى ذلك. ومن ثمّة فإن الاتصاف بالفضائل ومساعدة الآخرين أكثر أهمية من مجرد قضاء الوقت في الاستمتاع والإنجاز الذاتي، في نظر هؤلاء.

اقرأ/ي أيضًا: طبعة جديدة من "السياسة" لأرسطو

يجادل أفلاطون في تحفته "الجمهورية" بأنه من الأفضل أن نعاني من الخطأ ولا نقترفه؛ إذ أن الرجل الطيب الذي اقتلع عينيه وتعرض للتعذيب حتى الموت، هو أكثر حظًا من الشخص الفاسد الذي يستخدم الثروة والسلطة بشكل مخادع. ويقول أيضًا إن الشخص الخلوق يتمتع بنوع من التناغم الداخلي، في حين أن الشخص الشرير، مهما كان غنيًا وقويًا أو غارقًا في المتعة، يبقى غير منسجم داخليًا، ومتناقض مع نفسه ومع العالم.

نفس المجرى يأخذه إيمانويل كانط، وهو فيلسوف عاش في عصر النهضة، فالإنسان في نظره يسمو على طبيعته الحيوانية عن طريق الأخلاق الصادرة عن العقل، ودونها يسقط في الغرائز الحسية التي لا تخضع لعقل. يعتمد كانط ما يسميه بـ"الواجب الأخلاقي"، بحيث يصر على أن تكون دوافع أخلاقنا ليس لتحقيق مآرب أو منافع خاصة أو خوفًا من عقاب، بل ينبغي أن تكون صادرة من كينونتنا الحرة والالتزام بها لذاتها بغض النظر عن الظروف، يفسر هذا الطرح بقوله "اعمل دائمًا بحيث يكون تعامل الإنسانية في شخصك وفي أشخاص الآخرين كغاية، لا كمجرد وسيلة.

الحياة السعيدة هي حياة المتعة والملذات

يعتبر الفيلسوف اليوناني أبيقور هو أول الفلاسفة الذين أعلنوها، بصراحة، أن ما يجعل الحياة جديرة بالعيش هو إمكانية التمتع بالملذات والانغماس فيها.

في الوقت الذي كان الفلاسفة اليونانيون يحتقرون الملذات "الدنيا" مثل الجنس والغذاء والشراب والانغماس الحسي بشكل عام، كان أبيقور يدافع عن هذا النوع من أسلوب الحياة ويمارسه ويقدره، واختزل الحياة السعيدة في "حياة اللذة والمتعة" الناتجة عن إشباع البطن والجنس، ليبتدع المدرسة الأبيقورية التي تركز على الملذات الحسية في الحياة.

وعلى الرغم من أن معاصريه اتهموه بالفسوق والفجور، فإن أبيقور كان طيبًا في تعاملاه مع أصدقائه وتلامذته كما يحكى عنه، كما أنه وافق أفلاطون في أنه يجب أن تكون الحياة فاضلة بالأخلاق في التعامل مع الآخرين، إلا أنه اختلف معه فيما يخص المتعة. ويظهر أن هذا التصور للحياة الجيدة هو الذي يطغى في يومنا هذا، فحتى في الخطاب اليومي، إذا ما قلنا إن شخصًا ما "يعيش حياة جيدة"، فإنه غالبًا نعني بأنه يستمتع بالملذات الترفيهية: الطعام الجيد، والتمتع بالجنس، والاستلقاء، والتجوال.

يركز هذا الاتجاه في فهم "الحياة الجيدة" على التجارب الذاتية الحسية، التي تشعرنا بـ"الرضا"، وهكذا فإن الحياة السعيدة هي تلك التي تحتوي على العديد من التجارب من "الشعور الجيد"، فيما يهمل الجوانب النظرية والأخلاقية لمفهوم السعادة.

الحياة السعيدة هي الحياة الكاملة

إذا كان سقراط يؤكد على الفضيلة ويركز أبيقور على المتعة، يرى مفكر يوناني عظيم آخر، وهو أرسطو، الحياة الجيدة بطريقة أكثر شمولًا. فوفقًا لأرسطو، إن الحياة الجيدة هي الحياة السعيدة التي تتضمن جوانب جوهرية للعيش الجيد، فهو يؤيد أنه على المرء أن يكون حسن الأخلاق لكي يعيش حياة طيبة، لكنه أيضًا ينبغي أن يستمتع بالتجارب الحية المتنوعة، إذ لا نستطيع أن نقول حقًا إن هذا الشخص يعيش حياة جيدة إذا كان في أغلب الأحيان بائسًا، أو يعاني باستمرار حتى لو كان خلوقًا.

وفقًا لأرسطو، إن الحياة الجيدة هي الحياة السعيدة التي تتضمن جوانب جوهرية للعيش الجيد

ويضع أرسطو مجموعة من المسائل  للوصول إلى الحياة الجيدة بحسب رؤيته.

  • الفضيلة: يجب أن يكون المرء فاضلًا أخلاقيًا.
  • الصحة: يجب أن يتمتع المرء بصحة جيدة وحياة طويلة بشكل معقول.
  • الرخاء: يجب أن يكون المرء في وضع مريح، وأن يكون غنيًا بما فيه الكفاية لكي لا يحتاج للعمل على الدوام، وبما فيه الكفاية أن لا يكون مضطرًا للتخلي عن حريته أو وقته إذا ما رغب في فعل شيء ما.
  • الصداقة: يجب أن يكون لدى المرء أصدقاء جيدون، وفقًا لأرسطو فالبشر اجتماعيون فطريًا؛ لذا لا يمكن أن تكون الحياة الجيدة في العزلة، كما ينبغي أن يتمتع باحترام الآخرين، ولا يعتقد أرسطو أن الشهرة أو المجد أمر ضروري لأجل ذلك؛ بل في نظره قد يؤدي شغف الشهرة والرغبة في الثروة الضخمة إلى ضلال الناس، ولكن بالقدر الذي يعترف فيه الآخرون بصفات الشخص وإنجازاته.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: في صحبة فلاسفة الإسلام (الفارابي 2)

هكذا يبدو تصور أرسطو للحياة الجيدة أكثر موضوعية وواقعية، إذ لم يختصر المسألة في مدى شعور الفرد بالرضى في الداخل بالداخل، على الرغم من أن ذلك أمر مهم، بل حاول الجمع بين الفضائل الأخلاقية والاجتماعية والبحث عن المصلحة الذاتية في خضم إكراهات الواقع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأصالة الفلسفية الإسلامية.. أشكلة النقل والترجمة

الحياة العاطفية للفلاسفة