13-ديسمبر-2020

تواصلت الاحتجاجات ضد إدارة ماكرون (Getty)

خرَج الفرنسيون يوم السبت 11 كانون الأول/ديسمبر، إلى الشارع نهاية هذا الأسبوع، كما الذي سبقه، احتجاجًا على قانون "الأمن العام" وضدَ العنف البوليسي، بيد أن هذا الأسبوعَ أضاف لهم سببًا آخرَ للاحتجاج، وهو مشروع قانون "تعزيز احترام المبادئ الجمهورية"، الذي أعلنت عنه الحكومة يوم الإثنين الماضي، بهدف محاربة ما سمته بـ "الانعزالية الإسلامية" وتنفيذً لتوصيات الخطاب الرئاسي ببلدية ميرو ذات الـ 2 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي. توصيات تتضاربُ الآراء حولها، بين من اعتبرها "هجمة عنصرية تستهدف مسلمي البلاد"، و من رأى فيها "مناورة ذات أهداف انتخابية" يخوضها ماكرون مسبقًا تحضيرًا لاستحقاقات 2021. اشترك الفرنسيون من خلفيات عدة، عبرَ مظاهرة السبت، في رفض الزج بالمسلمين ككبش فداء لهذا الرهان السياسي أو ذاك.

خرَج الفرنسيون إلى الشارع نهاية هذا الأسبوع، كما الذي سبقه، احتجاجًا على قانون "الأمن العام"، بيد أن هذا الأسبوعَ أضاف لهم سببًا آخرَ للاحتجاج، وهو مشروع قانون "تعزيز احترام المبادئ الجمهورية"

تجدّدُ العنف في مظاهرة ضدّ العنف.. الأمن العام والانعزالية

"أوقفوا الإجهاز على الحريات، أوقفوا الإسلاموفوبيا"، لافتة رفعها المحتجون بباريس مساء السبت في مقدّمة مسيرة حاشدة، وشعارٌ هو الذي خرجوا من أجله محتجّين. شقها الأول يهم صراعًا معلنًا منذ أسابيع، يكافح قانونًا لـ "الأمن العام"، جاء ليعتم على العنف البوليسي والقمع المستمر للمظاهرات، ويمسّ حريّة التعبير والصحافة التي يكفلها القانون الجمهوري منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. بينما الشق الثاني هو مستجدّ الأسبوع الماضي، مع كونه مرتقبًا منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر، حيث حاولت منذ ذلك الحين الداخلية الفرنسية إلصاق تهم التطرف والانفصال بمسلمي البلاد، في حملة طالت حتى حلّ جمعيات المجتمع المدني المناهضة للعنصرية.

اقرأ/ي أيضًا: حوار| نجيب آزرقي: ماكرون يدقق خطاب اليمين المتطرّف

كانوا 26 ألف متظاهر في كامل التراب الفرنسي، 10 آلاف في باريس لوحدها. كانت المظاهرَة حاشدة، وكذلك كانت تعبئة رجال الشرطة في مواجهتها. وحتى قبل انطلاق المسيرة جاهدت الداخلية الفرنسية لتجنّب المد الكاسح، في شق أول، بمنع الترخيص عن مظاهرة السترات الصفراء التي كانت هي الأخرى لتنضمّ له، بحجّة أن "المنظمين لم يقدموا (لمفوضية الشرطة الباريسية) ما يكفي من الضمانات للالتزام بالإجراءات الصحية المتعلقة بالحد من انتشار فيروس كورونا، واحترام التباعد الاجتماعي"، حسب ما جاء في بيان المفوضية. وحسب موقع "Révolution permanante"، في شقّ ثاني، قامَت الشرطة باعتقال العشرات احترازيًا حتى قبل بداية التجمهر بساحة شاتليه.

أثناء المظاهرة، يقول ذات الموقع، "فاق عدد رجال الشرطة نظيره خلال مظاهرة السبت الماضي"، أي عددًا تعدى الـ 6 آلاف مجند لـ"حفظ الأمن". ومع بداية التجمهر، طوقت وحداتهم مداخل ومخارج خط سير المسيرة، مع القيام بتفتيش شامِل للمتظاهرين، بلغ حدّ انتهازه كذريعة للتحرّش الجنسي بهم. نعم، "تحرشٌ جنسي ينضاف لآليات القمع والإهانة التي تنهجها الشرطة الفرنسية إزاء المتظاهرين"، حسب شهادة أحدهم، والذي يحكي "مع دخولي المظاهرة أوقفني شرطي بحجّة التفتيش، إذا بي أفاجأ به يلمس سروالي الداخلي، أعضائي الجنسية وفتحة شرجي"، ليختم قوله: "أحس بإهانة كبيرة، لقد كان تحرّشًا جنسيًا واضحًا ما تعرضتُ له!".

على طول المسيرة صرخَ المحتجون: "لا لقانون الأمن العام! لا لقانون الانفصالية!"، وعلى طولها كذلك لم يتوقف التحرش واستفزاز المتظاهرين. وصولًا إلى النهاية، حيثُ توالت الهجمات لفض التجمهر. قنابل غاز مسيل للدموع، مدافع ماء، رصاص مطاطي وعصي كلها كانت في موعد العنف الذي طال المتظاهرين، كما مشاهد امرأة سبعينية كسرت يدها بعضى شرطي، أو موسيقي شقّ وجهه بذات الأداة، واعتقالات بلغ عددها حسب وزير الداخلية 142، لترسُم معالم أمسية دموية أخرى احتضنتها شوارع باريس، كما باقي التراب الجمهوري.

"نريد أن نمنح أنفسنا وسائل حماية"

كانت أبرز سمة تجذب الملاحظة في إعلان الحكومة الفرنسية يوم الـ 9 كانون الأول/ ديسمبر الجاري عن "مشروع قانون تعزيز احترام المبادئ الجمهورية"، اسمه المغاير عمّا دعاه به الرئيس ماكرون سابقًا كـ "قانون محاربة الانفصالية الإسلامية". السمة الثانية هي رمزيّة تزامن إعلانه وذكرى القانون الذي فصلَ بين الكنيسة والدولة سنة 1905. ومن هذه الثنائية، أي بين الفصلِ والانفصالية، يأتي القانون الجديد بغرض تأكيد الأولى عبر تدعيم القانون القديم، ومنح آليات قضائية للحكومة في حربها ضدّ الثانية. هذا ما نفهم من كلام رئيس الحكومة، جان كاستيكس، الذي افتتح به عرضه لمشروع القانون، إذ قال: "نريد أن نمنح أنفسنا وسائل الحماية والمكافحة!".

مكافحة هي لـ "المشاريع الأيديولوجية والسياسية التي تستهدف قيمنا و سيادتنا، بأعمال تصل في بعض المرات حدّ الإجرام"، يوضح كاستيكس، فيما الحماية هي "لكل من يكابدون بشكل يومي خطر هذه المشاريع"، و"الذين تهدد حريّتهم وكرامتهم أعمال وسلوكيات مناقضة لمبادئنا الجمهورية" حسب زعم المتحدث. هذه المبادئ التي يعددها هي الأخرى "احترام كرامة الإنسان، حرية التعبير والفكر والعبادة، المساواة وعلى وجه التحديد بين الجنسين، حق التعليم.. على وجه العموم رفضُ كل السلوكيات المهينة".

وهذه المبادئ التي، حسب رئيس الوزراء، تواجه تهديدًا مصادره هي "الأطفال الذين يسحبون من مدارس الجمهورية لتلقي دروس في مدارس طائفية، الجمعيات الرياضية التي تمارس الدعوة الدينية، الجمعيات الثقافية الواقعة تحت تأثير الأيادي الخارجية، وموظفو الخدمات العمومية الذين ينكرون مبادئ الحياد واللائكية". "هذا ما ندعوه الانفصالية الإسلامية" يضيف كاستيكس، مؤكدًا على أنه "يجب على فرنسا أن تدافع عن نفسها إزاء هذه التهديدات وأن لا تبقى مكتوفة الأيدي. كما يؤكد في موضع آخر من حديث على أن الملام في هذه الأفعال هو "الأيديولوجية الخبيثة للتطرّف الإسلامي"، وأن نص هذا القانون "ليس ضد الديانات، ولا ضدّ الدين الإسلامي على وجه التحديد".

هذا ويقوم القانون الذي كشفت عنه الحكومة على مرتكزين أساسيين، الأول هو تمكين أجهزة الدولة من آليات جديدة لتعزيز الحياد الديني والأيديولوجي للخدمات الاجتماعية، وضمان احترام الجمعيات للحريات الأساسية، ضمان استفادة الأطفال من تعليم وفق المبادئ الجمهورية، كما محاربة خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي عبر إجراءات جديدة يسنها. فيما المرتكز الثاني، يهم تعزيز قانون 1905 ليواكبَ مجريات العصر الحالي، بتحديث وتوضيح نظام الممارسات الدينية بالبلاد، وكذا ضمان الشفافية فيما يخص تمويلاتها ضد أي  تأثيرات خارجية.  

أهم بنود القانون.. الداخلية الفرنسية توضح

على المستوى الإجرائي، يقول كاستيكس، أن القانون يحمل في طياته "إجراءات منع المدارس غير النظامية التي تنشر أيديولوجية إسلامية راديكالية"، ومذكرًا بجهود الحكومة التي، ومنذ ثلاث سنوات، ضاعفت عدد الأقسام الدراسية في "الأحياء التي تتفشى فيها هذه الأيديولوجيا" وعددها 53 حي مستهدف بعملية "التحرير الجمهورية". إضافة إلى تعزيز العرض الصحي وتوفير وحدات سكنية في هذه الأحياء، "لإنهاء منطق الجيتوهات" يضيف المتحدّث. كما يتمم ويحدّث قانونين أساسيين للجمهورية: قانون سنة 1905 الذي يهم الفصل بين الكنيسة والدولة، وقانون سنة 1901 الذي ينظّم جمعيات المجتمع المدني.

تاركًا المجال لتفصيل أكثر في الموضوع، يترجّل رئيس الحكومة عن المنصّة، لتتولى ذلك الداخلية بوزيريها جيرالد دارمانان، ومارلين شيابا المكلّفة بحقيبة المواطنة والمساواة بين الجنسين ومحاربة التمييز. في بنده الأول، يعمم القانون الجديد الحياد الديني والأيديولوجي ومنع إظهار أي علامة دينية أثناء العمل بالنسبة لموظفي القطاع الخاص المكلّفين بمهمات عمومية، الأمر الذي كان مقتصرًا في السابق على موظفي القطاع العام، يقول دارمنان أنه "أصبح من غير الممكن أن نرى تصرفات طائفية أو علامات دينية على موظفين يؤدون خدمات عمومية رغمَ أنهم ليسوا موظفين في القطاع العام".

"إلى حدود هذه اللحظة هناك أئمة يتلقون رواتبهم من بلدان مغاربية أو تركيا مقابل نشاطهم في بلدنا، هذا الوضع لم يعد مقبولًا" صرّح وزير الداخلية الفرنسي،  فيما يهتم البند الثاني من القانون بعمل جمعيات المجتمع المدني، التي يلزمها بـ "احترام المبادئ الجمهورية"، بربط منح ترخيص نشاط الجمعية بتوقيعها تعهدًا على احترام هذه المبادئ. مع مراقبة مداخيل هذه الجمعية عبر آلية رقابة قضائية، وتتميم صياغة القانون لحلّ الجمعيات كي تشمل هذه الخروقات. هذا ويعزز القانون بذات الشكل منع احتضان المؤسسات الدينية للحملات الانتخابية، ويمنح الصلاحية لمحافظي المصالح الترابية للتدّخل لفرض "احترام المبادئ الجمهورية".

فيما يخصّ الجانب الاجتماعي، يمنع القانون الجديد إجراء كشوفات عذرية، "ليس لأي مواطن فرنسي ما يصرّح به إزاء عذريته، هذه الممارسات تحط من الكرامة الإنسانية" حسب مارلين شيابا، الوزيرة المنتدبة لدى الداخلية الفرنسية. كما أدت شيابا عزمها على محاربة الزواج القسري، بأداة موظفي الحالة الذين يكلّفهم القانون المذكور بالتأكد من رضا الطرفين قبل عقد القران، وبمساعدة المجتمع المدني "الذي وجب عليه أن ينبه موظفي الحالة المدنية في حال علمه بوجود خرق من هذا النوع". هذا وأعلنت الوزيرة أن بلادها  بموجب هذا القانون "لن تمنح إقامة على أراضيها لشخص متعدد الزوجات"، في جهود لمحاربة ظاهرة التعدد، إضافة إلى "رفعها الحماية من الترحيل القسري عن كل شخص معدد يقيم على التراب الفرنسي". 

خطوة خرقاء أم غير كافية.. جولة ردود الفعل

"كل ما يمكن قوله هو أن ما شهدناه عبرَ ندوة الحكومة ملاحقة حقيقية في حق مسلمي البلاد" يصرّحُ نجيب أزرقي، رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي لمسلمي فرنسا، في حديث خصّ به "ألترا صوت"، تعليقًا على ما كشفه المجلس الحكومي يوم الإثنين. ويضيف أرزقي أن الحكومة "مستمرة في تغطية فشلها السياسي باختلاق عدو داخلي لاعبة على الوتر الحساس للصدمات التي خلّفتها الجرائم الإرهابية. وهذا مساس خطير بالديموقراطية الفرنسية والنموذج الجمهوري، لأنه يضرب في أسسه ومبادئه الأولية".

كيف سيؤثرُ القانون الجديد على لوائحكم الانتخابية؟ سألنا رئيس الحزب الديموقراطي لمسلمي فرنسا، ليجيب بأنه "لا يمكن لدرمانان مهاجمتنا إلا عبرَ الساحة السياسية، ولا القانونية. لأننا خصومٌ سياسيين ولسنا منظمات مجتمع مدني". لأن " كل ما شهدنا خلال الفترة الأخيرة"، يضيف أرزقي "هو الإجهاز والحل الذي استهدف جمعيات المجتمع المدني التي تقدم خدمات الدعم القانوني ومساعدة المسلمين الذين يتعرّضون للتمييز العنصري ضدهم". هذا ويذكرُ أن خروج القانون الجديد تزامنَ و إعلان دارمانان رفضه لمحاولة ثانية لجمعية "Baraka City" الخيرية، من أجل فك تجميده أرصدتها البنكية سابقًا خلال مطلع الشهر الماضي.

من جانبها علقت الصحفية الفرنسية من أصول مغربية، والناشطة المدنية في محاربة الإسلاموفوبيا، فيزة بن محمد، ساخرة من تصريحات وزير الداخلية في هذا الصدد: "إذن فالملابس الداخلية إهانة في حق الجمهورية؟". فيما تعهد النائب البرلماني اليساري وزعيم حركة "فرنسا الأبية"، جان لوك ميلانشون، بأن "هذا القانون لن يمر!"، معتبرًا إيّاه "ثرثرة غير ضرورية، إضافة إلى أن الكثيرَ مما أتى به مكفول بقوانين موجودة منذ زمن داخل الترسانة القانونية الفرنسية".

 

بالنسبة للصحافة الفرنسية، انقسمَ موقفها حول القضية بين مؤيد ومعارض. "محاولة خرقاء" هكذا اعتبرت جريدة ليبراسيون مشروع قانون تعزيز احترام المبادئ الجمهورية في افتتاحيتها ليوم الإثنين الماضي. مقتبسة من قول أرتيسيد بريان، مهندس قانون 1905: "هناك من أبدوا امتعاضهم من أننا لم نمنح للقانون طابعًا قتاليًا. هذا ليس بتقدّم، بل هو لكمة في وجه المؤمنين"، رابطة إياه بمشروع القانون الذي يماثل على حد وصف الجريدة ما عارضه أرتسيد بريان قبل 115 سنة. معتبرة أن رئيس الجمهورية يحاول كسب الوقت بإقحام الحكومة في معارك ليست ضرورية في هذا الوقت، كما يستنزف جهدَ الحكومة الذي من المفروض أن يوجه لحل مشاكل أكثر راهنية.

جريدة لوفيغارو، وعلى الجانب الآخر من نظيرتها ليبراسيون، اعتبرت أن ما جاء به مشروع القانون وحده "غير كافٍ لمكافحة خطر التطرف الإسلامي"، الذي "تهب رياحه المعادية بقوة، فيما نتائج مشروع القنون لن تحقق المطلوب". معتبرة في افتتاحيتها هي الأخرى بأن "الحرب ضد التطرف والإرهاب لن تكون لها جدوى إلا عبر تجفيف منابعه الأولى"، التي تحددها في "الأيديولوجيا الإسلاموية المتفشية في البلاد". هذا القول يتقاطعُ وتصريحات مارين لوبان، زعيمة التجمع الوطني اليميني المتطرف، التي اعتبرت هي الأخرى أن مشروع القانون ليس كافيًا "أمام الوضعية الخطيرة التي نعيشها"، لأنه يهمل "محاربة الأيديولوجيا السلفية والإسلام السياسي، والهجرة غير المقيدة برقابة كافية".

 "محاولة خرقاء" هكذا اعتبرت جريدة ليبراسيون مشروع قانون تعزيز احترام المبادئ الجمهورية في افتتاحيتها ليوم الإثنين الماضي

دوليًا، حيّا حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرّف خطوة الحكومة الفرنسية، كما ثمّن عملها على "ترحيل الآلاف من الإسلاميين، وغلقها المساجد". داعيًا حكومة بلاده إلى الاقتداء بنظيرتها الفرنسية، بـ "تهجير الخطر الإسلامي في البلاد إلى سوريا"، ومكافحة أنشطة "الإسلاميين والجناح اليميني التركي المتقنع داخل مجلس مسلمي ألمانيا". هذا ويذكر أنه من المزمع طرح مشروع قانون "تعزيز احترام المبادئ الجمهورية" داخل قبة الجمعية العامة الفرنسية مطلع السنة القادمة 2021.