بعد نصف قرن من الاستقلال الوطني، اطمئنّ الجزائريون إلى أرقام ومعطيات وزارة الصّحة وإصلاح المستشفيات، وطنّوا أنهم شرعوا في الاقتراب من المعايير الدّولية في حقل الصّحّة العمومية. 

تشهد هذه الأيام في الجزائر، انتشارًا سريعًا لمرض الحصبة المعدي، من محافظات الجنوب إلى الجزائر العاصمة

من هذه الأرقام، التي تضمّنتها وثيقة للوزارة حملت عنوان "الوضعية الديمغرافية والصّحية" لعام 2016، وجود 77 ألفًا و406 من الأطباء الممارسين، و14 ألفًا و788 طبيبًا مبرّزًا وأستاذًا مساعدًا، و30 ألفًا و972 طبيبًا عامًا، و12 الفًا و872 طبيب أسنان، و11 ألفًا و47 صيدليًا.

اقرأ/ي أيضًا: حملة تلقيح تثير الرعب في المدارس الجزائرية

ومن هذه المعطيات أنه تمّ القضاء على الأمراض التّقليدية، خاصّة تلك المتعلّقة بالأطفال، في ظلّ سياسات التّلقيح الوطنية في المستشفيات والمدارس، إذ يحمل كلّ طفل دفترًا صحّيًا مسجّلة فيه أنواع التّلقيحات وتواريخها.

غير أنّ هذا الاطمئنان الشّعبي سقط في الماء هذه الأيّام، بظهور مرض الحصبة المعروف شعبيًا بـ"بوحمرون" في بعض محافظات الجنوب الجزائري، وأخذ في الانتشار حتى وصل إلى الجزائر العاصمة نفسها، في ظلّ صمت حكومي عن الظاهرة الغريبة من زاوية أسبابها وتهديداتها وعدد ضحاياها الحاليين والمحتملين والإجراءات المتخذة للقضاء عليها، خاصّة بعد تأكيد "معهد باستور" الحكومي للتّحاليل الطبّية، أن هذه الفئة من "بوحمرون" أخطر ممّا عرفه الجزائريون من قبل.

يقول الطبيب ياسين عبد الجبّار لـ"ألترا صوت" إن "الحكومة، التي تعاملت مع مطالب الأطبّاء المقيمين منذ شهور بالقمع والضّرب والأذن المغلقة، بدأت تجني ثمار ذلك، منها عودة مرض بوحمرون، الذي بات من الأمراض المنقرضة حتى في بعض المجتمعات التي تعدّ أقلّ تطوّرًا من الجزائر". 

ويتساء الطبيب عبدالجبار: "هل بقي معنى لتفاخر وزارة الصّحة بما أنجزته في الميدان بانتشار هذا المرض؟".

من أعراض الحصبة أو "بوحمرون"، الذي يُعدّ مرضًا فيروسيًا حادًّا ويصيب الأطفال، حسب محدّث "ألترا صوت": ارتفاع درجة الحرارة والزّكام الشّديد واحمرار العينين وظهور بقع بيضاء في الفم بعد اليوم الثالث، وطفح جلدي أحمر بعد اليوم الرّابع. 

وينصح الطبيب أولياء الأمور بعزل الطفل المصاب عن بقية أفراد الأسرة. "هنا، أبدي اندهاشي من غياب حملة وطنية من طرف الحكومة وهيئات المجتمع المدني لتوعية الأسرة الجزائرية بكيفية التعامل مع مصابيها بهذا المرض المعدي"، يقول ياسين عبدالجبّار.

في ظلّ هذا الفراغ، يسأل المدوّن والنّاشط معمّر بودالي في تدوينة على فيسبوك: "من من الرفاق يمكنه تنويرنا بوباء ما يقال إنه البوحمرون ؟ أرقام و إحصائيات موثوقة ، المناطق الأكثر تعرضًا له ، الوسائل الإعلامية التي تحدثت عنه، مدة الإصابة وكيفيات التكفل بها، عدد الوفيات إن وجدت. بهذه الكيفية يمكن استشارة الأخصائيين في علم الأوبئة لا سيما المكلفين بالتحقيق الوبائي ، وتشكيل تصور سليم للموضوع. بدون أرقام ومصادر موثوقة، لا يمكن الاسترسال في التحليل".

كانت ولاية وادي سوف، (600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة)، البؤرة الأولى لانتشار المرض. ثمّ انطلق زاحفًا إلى التجمّعات المجاورة، قبل وصوله إلى مدن الشّمال. وبقي الأمر طيّ الاستهانة حتى شرعت المصادر المختلفة في الإعلان عن وفيات في أوساط الأطفال، بلغت 20 حالة من بين 2300 إصابة. 

هنا، تجدر الإشارة إلى أن وصول المرض إلى عاصمة البلاد، أدّى ببعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي إلى القول إنه ينبغي عزل الجنوب. ما أعاد الحديث عن النّظرة الدّونية التي يعاني منها سكّان الصّحراء إلى الواجهة من جديد. 

تفاعل الجزائريون مع انتشار الحصبة، ما بين السخرية والغضب من اختفاء دور الحكومة، وحتى التفسير المؤامراتي لانتشار المرض

قال الإعلامي أسامة وحيد في تدوينة ساخرة: "البوحمرون ينتقل من الجنوب إلى العاصمة. هل الأمر تمّ بفعل فاعل؟ نعم. الأمر تمّ بفعل فاعل وبالتآمر مع أجندات أجنبية!". ويضيف في تدوينة أخرى: "الآن ستتكفّل الحكومة ببوحمرون بعد أن وصل إلى حيدرة وسيدي يحي"، في إشارة إلى الحييّن اللذين يسكنهما عِلية القوم في الجزائر.

اقرأ/ي أيضًا: الأمراض العقلية في الجزائر.. إهمال يضاعف المأساة

 

 

في السّياق، انتشرت تفسيرات كثيرة لظهور المرض، عدّها البعض في خانة المزايدات الخاضعة لتصفية الحسابات السياسية. من ذلك اتهام الكاتب والصّحفي كمال داود الإسلاميين بالوقوف وراء انتشار الوباء حتى تتمّ الإطاحة بوزيرة التربية العلمانية نورية بن غبريط رمعون! وقول الإعلامية حدّة حزّام إن السّبب يعود إلى مقاطعة حملة التلقيح خلال العام الماضي، بعد أن ترددت أحاديث عن أن اللقاح قاتل. تسأل: "ألم تقولوا العام الماضي إنكم لن تلقّحوا أطفالكم بحجّة أن المرض يقتل؟ فلماذا تتباكون اليوم من بوحمرون؟"!

وفي حديث للصحافة الجزائرية، اعتبر رئيس "العمادة الوطنية للأطبّاء" بقّاط بركاني محمّد، ما حدث، "فعلًا جنائيًا يستوجب تحقيقًا يفضي إلى معاقبة المتسبّبين فيه". وقال إن هناك فرضيتين لا ثالث لهما: "إمّا أن هناك أطفالًا لم يتلقّوا، من قبل، لقاح البوحمرون، وإمّا أن اللقاح مغشوش". وهنا، رفضت تدوينة الإعلامي هشام التّبازي أن يكون التّحقيق حكوميًا، لأن الحكومة، بحسبه، لا يمكن أن تتّهم نفسها.

ظهور المرض فجأة وتسبّبه في خلق حالة من الرّعب في أوساط الجزائريين، كان فرصة لدفع ملفات سياسية واقتصادية واجتماعية إلى السّطح من جديد، في المنابر الإعلامية والمجالس الواقعية والافتراضية، "في ظلّ غياب الحوار وشعور النّاس بانسداد الأفق. علمًا أن خوف النّاس يبلغ أوجّه إذا تعلّق الخطر بأطفالهم"، بحسب النّفساني بوحجر بوتشيش. 

تداخل الحديث السياسي مع الاقتصادي مع الواقع الصحي، دليل على أن المجتمع الجزائري يعيش حالة شاملة من التخبط

ويضيف بوتشيش لـ"ألترا صوت": "تداخل الحديث السّياسي مع الحديث الاقتصادي بالحديث عن الواقع الصّحي، دليل على أن المجتمع يعيش حالة تخبّط في كلّ هذه القطاعات". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحة.. صداع المواطن الجزائري

10% من أدوية الدول الفقيرة مزيفة أو دون المواصفات