20-مارس-2017

مروان قصاب باشي/ سوريا

كنت أصنع مواسرجيّة رأيتها في حياتي. رقّعت مع الرجال مواسير أكثر من الكلمات التي لفظتها منذ ولدت. تفوّقت على مهندسي أعلى سدود في العالم، حين أوقفت الجرف الذي دلفه خوفي على نفسي، توجّسي منها وهي تأنبني كزوجة أبّ، حذري من تهوّرها وهي تركلني إلى أرصفة الليل كالقوّادة. وفي أقسى الوداعات وأكثرها استحالةً، سلّكت مجاري قلبي من الحنين أفضل مما يسلّك القنّاصون أبدان بنادقهم.

لكنّ هذا الحزن الذي يسيل الآن

هل يحزن الشعراء لضرورةٍ شعريّة؟ إذن، لماذا تبدو قصائدهم أشدّ حزنًا منهم؟

هذا الذي ينضح على طبلة الأذن
تَك تَك تَك تَك تَك

هذا الذي دون طعم أو رائحة
 
السلس كجلد أفعى
المرعب مثلها

هذا الذي كأنه هنا وكأنه ليس هنا 

الذي يبدّد الفرق بين البكاء والضحك

الذي يجعل الطرقات أوردةً للدم التالف

الذي يجعل أثاث الغرفة جثثًا وأنا جزّارها

أنا التي أبصرت من بياض قلبي مدنًا بأكملها

الآن يصير خرقة مصبوغة
وينزّ
تَك تَك تَك تَك 
تكسير للجسور التي بنتها الأسباب صوب ضفّة النتيجة

فأنا لا شيء يحزنني
لكنّي حزينة مثل قمر مائل
أو
مثل إوزّة في بحيرة جليديّة
أو 
مثل نبع جرّه بدو إلى الصحراء بالقوّة
لا لا
مثل مدينة محاصرة أو مقبرة أطفال أو.. 

تَك تَك تَك تَك تَك 

تكفر بتلك التي ولدت تعرفها، وعشت تعرفها
الخطيئة أصيص ورود بلاستيكيّة 
الخيبة، جوع كلاب
الخسارة، حقنة هيروين
الندم، مبيّض أموال
الخوف، غول من تأليف الجدات

تقفّيت أثره كأنّي لتوي هجّرت من رحم أمّي
أبحث عن حلمتها مغمضة العينين
عن قطرة من حليبها قبل أن أعرف مذاقه

لم أصدّق كيف أن زحف الأفعى لا دخل له بحواسها
أنه فوقها، أو تحتها، أو خارجها
لكنّي أفعل مثلها
أتبعه 
أحاول رؤيته فوق بصري
شمّه تحت شمّي
لمسَه خارج لمسي
هذا الذي دون شكل
أجسّمه
 
ها هو يصغر
لكنه يتسرّب بخبثٍ مثل فأر 
وكلما انتبهت
يعفر في وجهي كالرمل في وجه الكثيب

تَك تَك تَك

تكاد تعرفه:

أنا حزينة لأنّي…
السبب على طرف لساني
لا
الحزن هو الذي يقف على طرف لساني 
ممشوق القوام مثل ضابطٍ
يوزّع جنوده في أنحاء القلب
هو الذي يقف على طرفه ويضخّ أسلحته مثل دولة إمبرياليّة
أطلب هدنة قصيرة في أطراف أصابعي لأتلمّس موضع الألم
في حنجرتي لأقول آآآآخ وأمدّ الألف كما يمدّ الليل سواده
وفي مقلتيّ لأفجّر مدامعي دون حساب 

عدت أميالًا إلى الخلف 
تفقّدت إن كانت خيوط حزن تلك التي نسلت من سرج جدّي حين سقط المرج
إن كان يخصّ النار التي أشعلت على قمم جباله ولم يأتها أحد
إن كان يخصّ عاشقًا قديمًا سددت أحداقه بالإسمنت
أو ربما يخصّ الجنادب التي اصطدت أرجلها لأمنعها عن أوّل قفزة في حياتها

أركض أميالًا إلى الأمام

ربما هو الحزن الذي ينتظرني على باب الستين
بعد أن قُطعت عن سرّة أمي وهي تجفّ في سريرها
وأصيب بيت الطفولة بالجذام
بعد أن فقد أحدُ أبنائي دمه في الحرب 
وسقط أصدقائي في جحر الماضي 
واحدًا تلو الآخر 
واسودّت المدينة التي رأيتها من خلال قلبي
واسودّ قلبي

حين سأبتعد 
وأتداعى شيئًا فشيئًا
شيئًا 
فشيئًا
تَك.... تَك.... تَك
تــَــــــــــك.. تـــَـــــــــــك
تـــــــَ
تـــ
...

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموت كما لو كان نكتة

الذباب نقاط سوداء