19-نوفمبر-2023
تظاهرة متضامنة مع فلسطين

حاولت صحف غربيّة التقليل من حجم التظاهرات المناهضة للاحتلال (Getty)

يشنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي حربًا شاملة على قطاع غزّة المحاصر منذ 17 عامًا، راح ضحيتها أكثر من 12،000 شهيدة وشهيد، نصفهم تقريبًا من الأطفال، بعد استهداف آلة الحرب الإسرائيلية لكل شيء في القطاع، ولاسيما في شماله ووسطه، من مشاف ومدارس وبنى تحتية، وهو ما أحال غزّة إلى مكان غير قابل للعيش فيه، كما توعّد القادة الإسرائيليون في أعقاب السابع من تشرين الأول/أكتوبر، في تصريحات تندرج جميعها في خانة التعبير عن نيّة لإبادة الحياة في القطاع. 

الترا فلسطين

ومنذ اليوم الأول للعدوان كرّست وسائل الإعلام الغربية الأمريكية والأوروبية أدواتها وفضائياتها ومنصّاتها دعماً للرواية الإسرائيلية فضلاً عمّا تُعتبر أعرق الصحف العالمية التي أبدت إنحيازاً كاملاً للسردية الإسرائيلية وسط سقطات لا تُغتفر في المعايير الأخلاقية والمهنية ذات الصلة. فجرى تصديق الرواية الإسرائيلية بما فيها من أرقام وكأنها حقائق تتعالى عن المراجعة، مع الإصرار في المقابل على رفع علامات الشكّ بأرقام الضحايا المؤلّفة من غزّة، رغم أن الصور التي تصل من هناك كفيلة وحدها ببيان الكارثة الإنسانية الحاصلة. كما أدت وسائل إعلام غربية مرموقة دورًا وصفه مراقبون كثر بأنه دور "وضيع"، رضيت فيه صحفيون بالاندماج العملي والفعلي ضمنّ آلة البروباغاندا الإسرائيلية، والتجول رفقة الجيش الإسرائيلي بين جثث الضحايا وأحيائهم المدمّرة، ونقل ما تبيّن أنّه محض أكاذيب في مجمع الشفاء الطبي وغيره من المباني المدنيّة التي ادّعى الاحتلال أنّها مقارّ للمقاومة، وتأطير كل ذلك تحت مظلة ما سمّاه الغرب "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها".

وبالنظر إلى تاريخ الإعلام الغربي السائد في التعامل مع الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، فإن مراقبين يرون أن هذا السلوك ليس مستغرباً. فقد اعتادت معظم وسائل إعلامه على تأطير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي باعتبار ما يجري حربًا "دفاعية" وتخييله وكأنه يجرى بين نظيرين متكافئين في الرعب والقوة والإمكانات، مع استخدام لغة متحيزة بالغالب الأعمّ لإسرائيل. وقد أظهرت التغطية الأخيرة خلال الأسابيع الماضية الانشغال المبدئي الدائم بتجريم حركات المقاومة، وتجاهل الانتهاكات الإسرائيلية طيلة الأعوام السابقة التي سبقت السابع من أكتوبر، حتى بدا الهجوم الفلسطيني وكأنه نوبة غير مبررة من العنف المدفوع بكراهية اليهود.

بالرغم من كل الجهود الإسرائيلية ومن يتعاون معها ويدعمها في الساحة الإعلامية لنشر الرواية الإسرائيلية وغرسها في الأذهان تحديداً في الشارع الغربي إلاّ أن مشاهد القتل البربري الوحشي وصوت أنين الأطفال وبكاء الأمهات والأجساد المقطعة وغيرها من أفظع المجازر الوحشية التي ارتكبت بحق المدنيين في شكل من أشكال العقاب الجماعي، دفعت شعوب العالم الحّرة لتنتفض من أجل وقف إبادة المظلومين. انتفاضة مدوية يشهدها العالم من شعوب كثيرة ومختلفة من دول العالم.. تقف موقف الثابت الذي لا يحيد من أجل فلسطين، تختلف عروقهم وعقائدهم وأجناسهم وانتماءاتهم وتتحد عند إنسانيتهم. تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة، خرجت مظاهرات في مختلف عواصم العالم ومدنها في واشنطن ولندن وباريس وبرلين وسيدني وتورنتو، ترفع شعارًا واحدًا "أوقفوا الحرب الآن".

cease fire now protest for Palestine

 

من شيطنة المقاومة إلى شيطنة المتظاهرين

لم تقتصر تغطيات ومقالات الصحفة الغربية العالمية على شيطنة المقاومة الفلسطينية، مع اشتعال ساحات كبرى العواصم حول العالم بالمتظاهرين الغاضبين لفلسطين والمطالبين بوقف هذه الإبادة الجماعية، ذهبت بعض الصحف الغربية والأمريكية لإضفاء صورة مسيئة عن المتظاهرين الرافضين لما يحصل من جرائم وحشية في قطاع غزّة لا بل حتى إلى شيطنتهم.

كما سعت أخرى إلى تفريغ هذه التظاهرات من مضمونها عبر الاكتفاء بنقل خبر في صفحاتها الداخلية مركزة بشكل خاص على الزاويا التي تشير إلى بعض ما وصفته بعض الصحف "أعمال شغب بحق الشرطة" أما أخرى فحوّلت المظاهرات الضخمة التي وصلت حدّ الإطاحة بوزيرة الداخلية سويلا برافرمان إلى مجرد "حركة تعيق حرية وتنقل المواطنيين البريطانيين".

في صحيفة "التلغراف البريطانية"، اعتبر الكاتب تشارلز مور أن الشرطة تهين الشعب من خلال السماح بهذه المسيرات لافتاً إلى أن حق البريطانيين في التجول دون عوائق في يوم التظاهرات "محروم". واعتبر مور أنه في السابع من أكتوبر، قُتل ما يقرب من 1400 شخص في إسرائيل، ومنذ ذلك الحين، كان رد الفعل الرئيسي في الشارع البريطاني يتمثل في تنظيم مظاهرات من قبل المؤيدين للفلسطينيين.

واعتبر أنه حتى وإن كان من الممكن وصف هذه المسيرات بأنها سلمية، فإن حقيقة سكوت الآلاف عن واحدة من أكثر الأفعال المثيرة للاشمئزاز أي السابع من أكتوبر يثير الخوف.

مشدداً على أن الأشخاص الطيبين لن يسيروا في مثل هذه المسيرات في هذا الوقت، مهما كان مدى شعورهم بمحنة غزة.

كما تابع الكاتب منتقداً دور الشرطة في حماية هذه المظاهرات قائلاً "عندما يُطلب من المتظاهرين ذوي الآراء الأخرى الابتعاد، وعندما تُغلق الشوارع، وعندما تشغل المسيرة محطات السكك الحديدية، وتزدحم عربات السكك الحديدية أحيانًا بحشود تهتف، فإن هذا يرقى إلى مستوى إظهار اللامبالاة من قبل الشرطة للمواطن".

أما في مجلة سبكتاتور البريطانية يكمل الكاتب ستيفن بنفس مشابه في حديثه عن المظاهرات زاعماً أنه لم يعد هناك شعور بالسلامة والأمن في العاصمة البريطانية حيث تجوب مسيرات وصفها بأنها مليئة بالكراهية داعياً إلى "استخدام المادة 13 من قانون النظام العام لعام 1986، لحظر هذه المظاهرات"، حتى أنه ألمح إلى إمكانية ملاحقة المشاركين في هذه المظاهرات من خلال اتهامهم برفع شعارات داعمة لحركة حماس المصنفة في بريطانية بأنها "إرهابية".

شعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر باللغة الإنجليزية

وفي صحيفة ذا تايمز البريطانية  جاء فيها أن "الحق في الاحتجاج ليس مطلقاً". وقد حاولت الصحيفة من خلال تغطيتها شيطنة المظاهرات وتسليط الضوء فقط على ما اعتبرتها "أفعال في إطار الترهيب". وأشارت إلى أن المنظمين تفاخروا بأنهم أغلقوا شارع ليفربول مركزة على أن استمرار مثل هذه الاحتجاجات مستقبلياً ولفترة طويلة من شأنها "تعطيل الحياة الاقتصادية في العاصمة". وألقت الصحيفة باللوم على الشرطة التي سمحت للمتظاهرين بترديد كلمة "الجهاد" في شوارع العاصمة. وتابعت "تم إطلاق فئران حية مطلية بألوان العلم الفلسطيني في عدة فروع لشركة ماكدونالدز، التي تدير امتيازاتها في إسرائيل. والآن يمكن أن تتعرض السكك الحديدية ومراكز النقل الأخرى لمزيد من الارتباك إذا استمرت الاحتجاجات المماثلة دون رادع". وادّعت الصحيفة أنه على الرغم من أن العديد من المتظاهرين قد يكونوا سلميين، إلا أن ما وصفته بـ "حوادث الترهيب والتنفير هذه يمكن أن تلحق الضرر بقضيتهم، يمكن أن يؤدي اختيار المكان إلى تقديم رسالة تهديد فيما ينبغي أن يكون احتجاجًا مشروعًا".

أما في تغطية الصحافة الأميركية للمظاهرات التي جابت العالم تنديداً بالمجازر الإسرائيلية بحق الفلسطينيين لم يكن الأمر مختلفاً أيضاً.

 في وول ستريت جورنال الأميركية  حاول جيرارد بيكر تسليط الضوء على أن هذه المظاهرات تدعم ما وصفها بالأنشطة والأعمال "الإرهابية" واعتبر أنه مع مضي شهر على الحرب، تحاول الأصوات في شوارع المدن الأميركية والأوروبية، إقناعنا بأن "الحق خطأ، والعدالة طغيان، والإرهاب بطولة" في إشارة إلى أحداث السابع من أكتوبر. وفيما انتقد الشعارات التي ترددت في التظاهرات أضاف أنه تم بذل كل الجهود لإقناعنا بأن الدولة التي "ذُبح مواطنوها بشكل عشوائي في 7 أكتوبر على يد عدو أقسم على مسحها هي في الواقع دولة ظالمة شريرة". وأشار الكاتب في مقالته إلى إساءة استخدام بعض المصطلحات والتي تبدو مقنعة ظاهريًا وفق رأيه مقدماً مثال على ذلك عبارة "وقف إطلاق النار" ويقول "تبدو غير لائقة بشكل مباشر". وأضاف الكاتب فقرة تعبر عن موقف معارض لوقف إطلاق النار، يتكئ فيه على ذات الدعاية الصهيونية التي تتهرّب من ذلك رغم تصاعد المطالبات الدولية بوقف الحرب على غزّة، حيث قال بيكر إن وقف إطلاق النار يعني "السماح للجماعة الإرهابية بمواصلة إدارة دويلة بعد أسابيع قليلة فقط"، وملقيًا كذلك بهذه التهمة على المتظاهرين المؤيدين لوقف الجرائم في غزّة. 

زاوية أخرى  تطرقت لها صحيفة نيويورك تايمز الأميركية والتي من شأنها أيضاً إظهار جوانب سلبية من المظاهرات التي جابت العواصم الغربية واختارت زاوية مرتبطة بالذاكرة النضالية للشعب البريطاني لإظهار أن المسيرات الكبيرة الداعمة للقضية الفلسطينية  تزامنت مع إحياء بريطانيا لذكرى مقاتلي الحرب العالمية الأولى والصراعات اللاحقة. 

وأشارت بالقول إن "مجموعة يمينية اشتبكت مع الشرطة بالقرب من النصب التذكاري للحرب بالقرب من المقر الرسمي لرئيس الوزراء، بعد وقت قصير من الوقوف صمتًا لمدة دقيقتين بمناسبة يوم الذكرى. وأظهرت مقاطع الفيديو بعض الأشخاص وهم يقتحمون منطقة مطوقة".  وتابع المقال بياناً نقلاً عن الشرطة والذي تحدث زعم أن "العنف الشديد الذي مارسه المتظاهرون اليمينيون تجاه الشرطة كان غير عادي ومثيرًا للقلق العميق"، مركزاً على ما وصفها بأعمال عنف ضد الشرطة التي كانت تسعى إلى حماية النصب التذكاري متهماً بعض المتظاهرين بأنهم كانوا "في حالة سكر". وهو ما من شأنه إثارة حفيظة البريطانيين ضد هذه المظاهرات، ومحاولة تشويهها، هذا عمّا بدا أنّه تقصّد للتعمية على حجمها واستخدام صور ومقاطع لا تعكس المزاج الشعبي العامّ المتضامن مع فلسطين، والمناهض للحرب على غزّة.