25-سبتمبر-2023
بورتريه تجاري لكلب في ملابس جنرال

بورتريه تجاري لكلب في ملابس جنرال (etsy)

يتخذ الفنانون بشكل عام، إلا قلة قليلة، موقفًا حذرًا جدًّا في قراءة الأحداث العامة التي تعصف ببلدانهم، وفقًا لمصالحهم الشخصية البحتة، ذلك الحذر يعود لعلاقتهم الشائكة بالسلطة الحاكمة.

في بلاد تفتقر للديمقراطية كالجمهورية العربية السورية، وتحكمها بيد من حديد سلطة أمنية، يصبح الفن فيها مقيدًا بخطوط حمراء ترسمها أقلام السلطة.

أمام هذا الوضع، يتبارى بعض الفنانين في الانبطاح العلني كلما حانت مناسبة أمام أقدام المسؤولين. والأمر يصبح كاريكاتوريًّا ومهينًا بدرجة خاصة لأن طبيعة الفنان الصادق تأبى المهادنة وترفض الخنوع، ثم ترى فنانًا يرمى بنفسه في الحضيض ضاربًا عرض الحائط بكرامته في سبيل إرضاء السلطات.

في بلاد تفتقر للديمقراطية كالجمهورية العربية السورية، وتحكمها بيد من حديد سلطة أمنية، يصبح الفن فيها مقيدًا بخطوط حمراء ترسمها أقلام السلطة

سبق ذلك أيضًا، أن طالعتنا وسائل التواصل بمنشور لمخرج مسلسل مشترك سوري لبناني، أهدى من خلاله نجاح مسلسله لروح الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، مما أثار حفيظة الكثير من السوريين الذين اعتبروا أن ذلك خيانة للفن وخيانة لهم، سيما وأن موضوع المسلسل الأساسي يتناول مأساة هجرة السوريين للبنان، والكل يدرك بأن سبب تلك الهجرة هو قمع النظام السوري للسوريين.

أحوال هؤلاء الفنانين تنطبق عليها قصة الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف المسماة "الحرباء"، والتي نشرت بداية تحت اسم "مشهد صغير".

القصة تروي حادثة جرت مع مفتش الشرطة أتشوميلوف الذي كان يعبر ميدانًا في المدينة، حين سمع صراخًا، ورأى حشدًا يجتمع، ثم اكتشفوا بأن جرو صيد صغير قد عض إصبع الصائغ، فاستشاط المفتش غضبًا وقرر أن يغرم صاحب الجرو وأن يعدم الجرو نفسه، وأطلق خطابًا توبيخيًا للناس عديمي المسؤولية.

لكنه تراجع فورًا عن كلامه بمجرد أن سمع من أحدهم بأن الجرو يعود بملكيته للجنرال جيجالوف، بل إنه كذب رواية الصائغ ولامه، وامتدح كلاب الجنرال الأصيلة، وشاركه بذلك بعض المجتمعين.

ثم عاد وقرر إعدام الكلب حين جزم الكثيرون بأن الجنرال لا يمتلك كلابًا، وتوعد صاحب الجرو بالعقوبة.

لكن تأكيدًا مباغتًا من أحدهم بأنه قد شاهد هذا الجرو في مزرعة الجنرال، أفقده مجددًا شجاعته وجعله مترددًا، ولم يحسم الأمر حتى ظهر طباخ الجنرال وأكد بأن هذا الجرو ليس للجنرال، وهنا قاطعه المفتش آمرًا بإعدام الكلب الضال، غير أن النهاية كانت مفاجأة حين اتضح بأن أخا الجنرال قد جاء في زيارة لأخيه وأن الجرو يعود له.

تعلو الفرحة ملامح المفتش ويبدي سعادة عارمة ثم يطلق سراح الكلب محملًا الطباخ التحيات للجنرال وأخيه.

تعمد الكاتب العظيم أن يبالغ في إظهار تقلبات مواقف شخصية المفتش، وردود أفعاله، كما لو أنه حرباء تغير لونها بحسب الضرورة، ضاربًا عرض الحائط بالحقيقة وبمصلحة المظلوم في مجتمع يقوم على الاستبداد، ويصبح فيه النفاق أسلوبا للحياة.

فنانو زمننا لا يختلفون، باستثناءات، لا يختلفون في أساليبهم عن أسلوب أتشوميلوف، بل يكاد يتفوق عليهم أخلاقيًا، فيما لو قارنا بين دوافعه ودوافعهم.

فنانو زمننا لا يختلفون، باستثناءات، لا يختلفون في أساليبهم عن أسلوب مفتش الشرطة في قصة تشيخوف، بل يكاد يتفوق عليهم أخلاقيًا، فيما لو قارنا بين دوافعه ودوافعهم

الذاكرة مازالت حية، وكيف لنا أن ننسى مواقف فنانين مصريين كانوا يمجدون الرئيس حسني مبارك ويباركون لخلافة نجله في الحكم، ثم انقلبوا عليه بمجرد أن انتصرت الثورة المصرية الأخيرة، وعادوا بعد ذلك للتهليل للقيادة الجديدة.

حدث ذلك في مصر ويحدث في سوريا وفي سائر بلدان المنطقة.

سمعت بأن شعبان عبد الرحيم قد سئل يومًا كيف سيكون موقفه وهو الذي يغني ويمجد مبارك وشفيق، فيما لو استلم الإخوان الحكم، فقال: سأغني لهم، وإن رفضوا فسوف اتعلم تلاوة القرآن.

هذا فعلًا ما يقوم به مخرجو السلطات وفنانو هذا الزمن، التلون بحسب المصلحة.

فالأسهل بالنسبة لهؤلاء أن تتهم شعوبًا كاملة بالعمالة، والارتزاق والارتهان للأجنبي عندما تطالب بحقوقها، من أن تجاهر بموقف أخلاقي نبيل وملزم في وجه سلطة جائرة، أو أن تلتزم الصمت على الأقل.