30-نوفمبر-2016

لا تزال الجلوة العشارية قائمة في كثير من المناطق الأردنية (Getty)

لا تزال "الجلوة العشائرية" إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل في المجتمع الأدرني. فعلى الرغم من إلغاء القانون العشائري في العام 1976، فإن "التقاضي العشائري" لا يزال يُطبّق بين القبائل والعائلات الأردنية، وتحتفظ بنود "الجلوة" على حضور قوي فيه.

يقول الشيخ محمد سلمان لـ"ألترا صوت" إن "الدولة تتراجع لصالح العشيرة في الأردنّ"، في وقت تتراجع العشيرة والعائلة لصالح الدولة المدنيّة في بقيّة دول العالم. والجلوة، بتعريف بسيط، مشتقّة من الفعل "جلا" ومن معانيه خرج ونزح، والجلوة العشائريّة هي ترحيل أقرباء الجاني، وفق العادة العشائريّة وبقوّة القانون ورعاية أجهزة الدولة، من مكان سكنها القريب من محلّ إقامة ذوي المجني عليه، وذلك تهدئة للنفوس وحقنًا للدماء وتفاديًا لوقوع أيّة اعتداءات ثأريّة.

لا تزال الجلوة العشائرية تنفذ في الأردن رغم انتهاء القانون العشائري منذ العام 1976

وتطبّق الجلوة على الجرائم الخطيرة، كالقتل والخطف وهتك العرض، وتقضي بترحيل أقرباء الجاني، بما فيهم الأطفال والنساء، إلى منطقة أخرى، خلال مهلة زمنيّة قصيرة قد لا تتجاوز في بعض الحالات عدّة ساعات وحسب.

وقبل العام 1976 كان القانون العشائريّ مطبق في الأردنّ، ومع ذلك فمازال حكم العشيرة هو السائد في الكثير من القضايا التي يكون موضوعها الدم أو الشرف، وذلك بتطبيق رسميّ من أجهزة الدّولة التنفيذية، ومن هذه القوانين العرفيّة الجلوة العشائريّة، والتي كانت تطبّق في الماضي على أقرباء الجاني حتّى الجدّ الخامس، ثم صارت عام 1987 مقتصرة على الأقرباء حتى الجدّ الثاني، ومؤخرًا في مطلع العام 2016 تم التقدّم بمشروع قانون معدّل لقانون منع الجرائم يقضي نصّه على أنّ الجلوة تقتصر على الجاني وأولاده ووالده فقط.

كما نصّ هذا القانون على أن تكون الجلوة من لواءٍ إلى آخر داخل المدينة نفسها، وذلك بعد أن كان من الممكن أن يقع الجلاء على أقرباء الجاني وصولًا إلى الجدّ الثامن في بعض الحالات التعسّفية، وذلك كما حصل قبل خمس سنوات في جلوة هي الأقسى في تاريخ الأردن الحديث، كما يذكر الشيخ خليل عشا في حديثه مع "ألتراصوت"، وهو من الوجهاء الذين يشاركون في الإصلاح بين العشائر في مثل هذه الحالات.

اقرأ/ي أيضًا: الجامعة في مواجهة الطالب في الأردن: ماذا يحصل؟

يقول الشيخ خليل عشا، إن المئات من أفراد عشيرة أردنيّة كبيرة قد جلوا عن أماكن سكنهم، وذلك نزولًا عند طلب عائلة الجاني، إذ استمرّت جلوتهم أكثر من ثلاث سنوات، ولم تنته إلا بعد اعتصامات ومطالبات بتدخّل الحكومة والديوان الملكيّ لإنهاء تشرّد أبناء العائلة القسريّ في محافظات المملكة.

وقد ذكر في حديثه مع "ألترا صوت" الإجراءات المتعارف عليها في قضيّة الجلوة العشائرية، وأكد بأنّ أوّل ما تقوم به عائلة الجاني، في حالة القتل مثلًا، هو "عطوة فورة الدم" أو العطوة الأمنيّة حيث يتوجّه كبار عشيرته يتقدّمهم بعض أعيان المجتمع إن اشترطت عائلة المجنيّ عليه ذلك، بعد الجريمة مباشرة، وذلك تهدئة للنفوس وحقنًا للدم، وتكون مدّة "الهدنة" في هذه العطوة ثلاثة أيّام وثلث، ثم تكون هنالك عطوة أخرى تسمّى عطوة "الاعتراف" وفيها تطلب عائلة المجني عليه الجلاء الفوري لأفراد من عائلة الجاني يتمّ تحديدهم وحصرهم، ويتمّ تطبيق ذلك على الفور بإشراف السلطات التنفيذيّة.

وفي حين ينصّ القانون المعدّل كما ذكرنا على اقتصار الجلاء على الجاني ووالده وأولاده، إلا أنّ بعض العشائر لا تزال تطلب جلاء عشرات العائلات من ذوي الجاني بنسائهم وأطفالهم.

وللجلوة أبعاد اجتماعيّة واقتصاديّة لا يصعب تصوّرها، لاسيّما إذا علمنا أنّ الترحيل يكون فوريًّا بأمر من الحاكم الإداري بعد تحديد أسماء من سيتمّ عليهم الجلاء، وقد وضّح عيد الهباهبة، من محافظة الشوبك بعد الحديث عن الكثير من القضايا المشابهة في الجنوب، في مقابلة مع "ألترا صوت" أنّ "بعض العشائر تشترط إخلاء البيت الفوريّ دون أن يأخذ الجالون أيًّا من أغراضهم ولا ملابسهم"، بل ووصلت في حالة أخبرنا بها حصلت مؤخّرًا في محافظة الشوبك أنّ "أهل المجنيّ عليه اشترطوا حتّى عدم سقاية الأشجار المحيطة بمنازل أقرباء الجاني الذين كتب عليهم الجلاء".

تنص بنود الجلوة العشائرية على جلاء عائلة الجاني إلى مناطق بعيدة ولثلاثة أجيال أحيانًا

وأكّدت المستشارة القانونيّة والناشطة الاجتماعيّة إسراء محادين في حديث مع "ألترا صوت" بأنّ الجلوة العشائرية تخالف أحد المبادئ الأساسيّة للقانون والذي ينصّ على شخصيّة العقوبة، كما أنّ تطبيق الجلوة يتعارض مع حقّ الإنسان في حريّة اختيار مكان السكن والتنقّل والتملّك. ورغم تأكيد السيّدة محادين على حساسيّة هذه القضيّة لدى العشائر الأردنيّة إلا أنّ مسؤولية المجتمع المدنيّ والناشطين فيه تقضي بزيادة الوعي بأهمّية سيادة القانون والاحتكام للقضاء العادل والالتزام بأحكامه.

وفي حين يفترض من الجهات الرسميّة التي ترعى هذه العملية أن توفّر للعائلات التي يصيبها قرار الجلاء بعض التسهيلات لدى وصولهم إلى مكان الإقامة الجديد، الذي يختاره عادة أهل المجنيّ عليه أو يحدّده الحاكم الإداريّ، إلا أنّ هذا الأمر قلّما يحدث.

اقرأ/ي أيضًا: العنف الطلابي..ظاهرة مخيفة في الأردن

ووفق تقريرٍ صدر عن "مركز الحياة لتنمية المجتمع المدنيّ"، اشتمل على دراسة مسحيّة لعشر حالات من مختلف مناطق المملكة، ذكر المتضررون أنّهم لم يحصلوا على أيّة تسهيلات من الجهات المعنيّة بعد انتقالهم للمكان الجديد، سواء ذلك فيما يتعلق بالمسكن أو حتّى بأساسيّات أقل من ذلك كالطعام والشراب. كما أكد المحامي عبد الله الحراحشة، المختصّ بالشؤون العشائريّة في اتّصال مع "ألترا صوت"، موضحًا أنّه لا توجد أيّة هيئة أو دائرة رسميّة معنيّة بمتابعة شؤون ضحايا الجلوة العشائريّة.

وفي حين أكّد الحراحشة "ضرورة الفهم الدقيق لأصول القوانين العشائريّة وأهمّيتها التقليديّة في حفظ السلم الأهلي وصون الحقوق والتكافل الاجتماعيّ"، إلا أنّه أشار إلى أنّ شيوخ "عباءات" باتوا يمتهنون التدخّل في هذه الشؤون لمصالح شخصيّة وماديّة ضيّقة، وأنّ هذا قد أسهم في تشويه صورة العشيرة في المجتمع الأردنيّ وتعقيد الأمور فيما يتعلق بالمصالحات العشائريّة بين النّاس. بينما أكّد أنّ شيخ العشيرة الأصيل الذي توارث هذا الدور وفهم أصوله ومسؤوليّاته، والذي يعرف تقليديًّا باسم "نقيع الدم" أحرص على تهدئة النفوس وحفظ الحقوق ورأب الصدع بين النّاس.

يتضرر أفراد عائلة الجاني بفعل لم يرتكبوه أضرارًا جسيمة ولا تزال المطالبات بتعديل القوانين جارية خاصة فيما يتعلق بالجلوة

وممّا يزيد الأمور فداحةً هو أنّ تحديد مدة الجلوة تعود إلى ما يتمّ الاتّفاق عليه في العطوة الأمنيّة فقد تكون المدّة عدّة أسابيع أو أشهر أو حتّى سنوات إلى أن يتمّ الصلح العشائريّ والمصادقة عليه من قبل الجهات الرسميّة، حتّى لو تعامل القضاء مع القضيّة وصدر الحكم بحقّ الجاني.

وهكذا، ورغم ما تمثّله قضيّة الجلوة العشائريّة من حرمان الإنسان من حقّه في الإقامة والتنقّل، وحرمانه في بعض الأحيان من التصرّف بأملاكه الخاصّة تأجيرًا أو بيعًا، لمجرّد أنّه ينتمي لعائلة جانٍ قد لا يعرفه ولم يلتق به في حياته، إلا أنّها لا تزال العرف الجاري في الأردنّ. ومع أنّ الكثير من المؤشّرات، والتعديلات القانونيّة منذ إلغاء قانون العشائر عام 1976 حتى مطلع العام 2016 تدلّ على أنّ النّاس يقرّون بثقل هذا العرف وفداحته، إلا أنّه لا بدّ من خطوة كبيرة وجريئة أخرى، رسميّا وشعبيًّا، لوضع حدّ لهذه المعاناة.

اقرأ/ي أيضًا:

العمل التطوعي في الأردن.. بأعين شبابه

في الأردن.. القانون في خندق المغتصب