02-فبراير-2016

مقطع من غلاف الرواية

يستند حسين طه السيد في روايته "الجسد البارد" (دار أطلس) على مقولة سارتر الشهيرة "الجحيم هو الآخرون"، ويُحمّل ذلك القول مضامين حركت العمل من الداخل دون أن تطفو على السطح. ما جعل من الرواية تجسيدًا لأفكار نابعة من تلك الفكرة، فيظهر "الآخر" حينًا هو الأنثى، وحينًا الأقليات الرافضة للاندماج مع محيطها، وحينًا يظهر بأكثر الأشكال حساسية، وهو السوري بالنسبة للبناني. إلا أنّ السرد يجنح عن وظيفته بتجسيد الأفكار، ويتحول إلى ذكر مباشر للفكرة، وعلى هذا المنوال بين التورية بقالب حكائي، أو التصريح الفجّ قاد الكاتب قصته.

تنشغل رواية "الجسد البارد" بتوثيق الوجود السوري في لبنان

يحضر في الرواية التي تتحدث عن الوجود السوري في لبنان، هاجس توثيقي للأحداث المفصلية التي شهدتها الحرب، حادثة الحافلة، السبت الأسود، اغتيال معروف سعد وكمال جنبلاط، وقد عمد الكاتب إلى تداخل لماح بين القصة التي جمعت تيريز والرقيب عرفة من جهة، وبين قصة لبنان من جهة أخرى. حتى أنّ عرفة قد أطلق على كلّ من تيريز ولبنان الصفة المميزة ذاتها وهي "الجسد البارد".

يفتتح الكاتب روايته بجملة صادمة "لقد أنجبتنا بطون واهمة، نحن لا شيء". وتتكرر تلك الفكرة بأشكال شتى، وفق منظومة تقوم على هدر إنسانية الجنود، إذ يجد عرفة ورفاقه أنفسهم، يحيون "حياة أرانب" ويأكلون في فصلٍ آخر، طعامًا مخصصًا للكلاب وجدوه في قصر طُلب منهم الاستراحة فيه، بعدما قام الضباط بسرقة محتوياته الثمينة.

تشكل ليلة رأس السنة نقطة انطلاق الحدث الروائي، حيث يجتمع عناصر الموقع العسكري مع عشرين مدنيًا بينهم امرأة واحدة، كان ثلاثة جنود تطوعوا لإنقاذهم من عاصفة ثلجية تركتهم عالقين في طريقهم من دمشق إلى بيروت. يقيم الجنود السوريون والمدنيون الفلسطينيون واللبنانيون حفلة رأس السنة في الموقع العسكري، ويجعل الكاتب من الاحتفال مختبرًا رهيبًا للهواجس، فقد كانوا ألعوبة في حرب تشبه "اللعبة".

في مختبر كهذا، نستطيع إدراك خوف الفلسطيني من السوري، واللبناني من الفلسطيني والسوري معًا، والسوري من السوري. بدا الجميع خائفًا من الجميع، إلى أن سرقهم شرب العرق من وعيهم المرتبك، ليحضر خوف الأنثى من كونها وحيدة بين مجموعة مقاتلين. من المفهوم كيف تحول الحرب الرجال إلى مهووسين؟ كان سريطة نموذجهم في الرواية، فقد خرب الاحتفال كي "يسهر مع الفرفورة" وعادَ الخوف ليسيطر سيطرةً بدت أنّها أبدية.

في "الجسد البارد"، يقيم الجنود احتفالًا، ويجعل الكاتب من هذا الاحتفال مختبرًا رهيبًا لهواجس شخصياته

يكشف لنا الكاتب عن لسان تيريز اللبنانية المقيمة في فرنسا، كم الأفكار التي جعلتها "مصارعات العبيد" تسكن خيالاتها عن "الهمج" السوريين عن "جهلهم الموغل" ليبرز في المقابل منطق يشير إلى جهل تيريز نفسها بالسوريين، حتى تبدو مشكلتها ليست مع السوريين، إنّما مع صورتها عنهم. وقد ساعدها موقف عرفة على اكتشاف جهلها، إذ أنقذها من موت محقق وآواها في غرفته، ثُمّ راح يروي لها حكايته عن الحرب وانسحاق إرادة الأفراد فيها، عن عجزهم واستلابهم.

وعلى هذا النحو المؤلم تَتابع فصول الرواية، حيث يُرمى الجنود إلى الهلاك، يواجهون الموت جوعًا أو بطلقات قناص، يقعون ضحية لتآمر ضابط ما، أو خطة فاشلة لضابط آخر. لقد كانوا أرقامًا، دماءً مسفوكة لأسباب يجهلونها تمامًا.

دفع الكاتب النص إلى نهاية بدت مرتجلة، وذلك بعد أن وجد نفسه عالقًا داخل حلقات تكرر ذاتها دون إضافة شيء. في الوقت نفسه، تنطوي تلك النهاية على رمزية عالية، بحيث تركت تيريز مغلفًا يحوي أربع صور لعرفة بالبزة العسكرية، كانت قد التقطتها له في غرفته، ثم نزعت رأسه من الصور الأربعة! طالما هم يقاتلون في معارك خاطئة، فإنّ موتهم "موت مجاني". يجد عرفة العقدة التي اكتسبها تجاه بلده تتسرب إلى داخله، إلى حيث يكمن الحب، يكتشف مجانية مشاعره، ويقوم الواجب العسكري بالتطبيق الفعلي لرمزية أرادتها الحبيبة الوهم!

اقرأ/ي أيضًا:

علي بدر.. عن أمة من الأشباح

سمير قسيمي.. في مجتمع مُغتصب