04-أغسطس-2015

طلاب في الجامعة الأمريكية يدلون بأصواتهم في انتخابات مجلس الطلبة عام 2008 (رمزي حيدر/أ.ف.ب)

أذكر كيف ركن الوالد السيارة على شارع "بليس" ليشتري لنا قرنين من البوظة لي ولأخي. كانت بداية التسعينيات. وأذكر جيدًا المرسيدس "القطش" الخضراء، وكيف كان الوالد يبالغ في الحرص على تلميعها في كل نزهة بيروتية خارج أسوار الشياح. وأذكر كيف سلمنا أنا وأخي القرنين محاصرين بعناية محرمتين خوفًا من أن تهرب نقطة من الكريما على الفرش الأخضر. وفيما غرقنا أنا وأخي في التهام البوظة. وقف الوالد بالقرب من السيارة يراقب شيئًا ما.

في السيارة، كان صوت أغنية فيها كثير من التشويش تصدح في "القطش". كان اللحن جميلًا، لم أكترث للكلمات ولم أفهمها على أي حال. صوت رجل عجوز يغني "هم مين واحنا مين...". إنه الشيخ إمام. ركب الوالد في السيارة بعد أن تأكد أننا أنجزنا المهمة بأقل أضرار ممكنة، خفض صوت المذياع وقال "شايفين هالسور وهالبوابة؟ هاي الجامعة الأميركية، رح فوتكن عليها بس تكبروا". كيف؟ من أين سيأتي بالمال؟ ما كان علينا الاهتمام بالتفاصيل. عقد من الزمن قضاه الوالد في الخليج كان كفيلًا بإدخالنا إلى أرقى جامعات الشرق الأوسط. هكذا تقول الإعلانات دائمًا "يقصدها الطلاب العرب والأجانب من كافة أنحاء العالم".

من بين هؤلاء الطلاب كنا أنا وأخي، والعالم الذي أتينا منه كان حي "المصبغة" في الشياح، بضاحية بيروت الجنوبية الفقيرة. أما الوسيلة؟ استبدلنا بالطائرة فان "الحافلة" رقم 4. كان من الضروري التأقلم سريعًا. عبارة "melting pot"، كانت لازمة يكررها كل من عرف أنني أصبحت مواطنًا في الجامعة الأمريكية. والعبارة هذه تعني أن هذا المكان هو وعاء انصهار، أي مجتمع جديد، ووجوه جديدة، تقاليد مختلفة وقيم جديدة.

في الجامعة الأمريكية لا شيء أمريكيًّا سوى الكراسات والعملة التي ندفع بها تكاليف الانتساب

الطالب الذي أخذنا في جولة حول الجامعة في اليوم الأول، كرر ذلك أيضًا والابتسامة لم تفارق وجهه. ابتسامة رضاء وامتنان، كانت كافية لتؤكد مجددًا أنني أقرب بخطوة من أمريكا الحقيقية، والجامعة هذه لن تكون سوى نقطة "ترانزيت". خلت لبرهة مع إصرار الشاب على ترديد عبارات الانصهار والتنوع، أنني أنا، المولع بقصص "لاكي لوك" قد أصادف "لوك" على شكل طالب في الجامعة ولما لا؟ لا بد أن الوعاء هذا قادر على استيعاب كلانا، قد نصبح صديقين، وقد تختارنا الجامعة لوضعنا على غلاف مجلتها الشهرية لإظهار حجم الاختلاط والتنوع في الجامعة "شياح - ميتس - تكساس" يبدو عنوانًا جذابًا.

"لوك" لم يكن هناك بطبيعة الحال. والوعاء هذا ولكثرة الانصهار الحاصل فيه، قد فاض. في الجامعة الأمريكية نفسها التي تستقطب هذه المروحة من الطلاب، تفرزهم على نحوٍ متواز في زواياها. القسم الأسفل من الجامعة، أو ما يسمى بالـ"لوير غايت" هو مرتع الداخلين الجدد. أولئك الذين ينتظرون الفرز في الأقسام العلية من الحرم الجامعي. يرسل إلى هؤلاء بالعادة، رسول ظريف، يأتي بهيئة فاعل الخير. يقدم المساعدة للأطفال الطلبة، يرشدهم. يسأل عن الاسم طبعًا والمنشأ. وبعد الإجابة تتحدد نسبة الاهتمام بالطالب الطفل. هذا الكائن اللطيف، ما هو إلا أحد مندوبي الأحزاب اللبنانية في الجامعة الأمريكية، و"الأمركان" حريصون على تعزيز النشاط السياسي في الحياة الجامعية. ديمقراطية أمريكية ما بعد حداثوية، تستوعب شعارات لحركة أمل، والمستقبل والقوات والعونيين... ومن دون أن ننسى طبعًا، حزب الله، بالجامعة الأمريكية في بيروت. جميلة لو ترجمت الشعارات اللبنانية إلى اللغة الإنجليزية: "عا دعساتك نحن مشينا"، "ما في حدا أكبر من بلده"، "الطوائف نعمة والطائفية لعنة"، وطبعًا، من دون أن ننسى الشعار الأكثر تعبيرًا "أمريكا الشيطان الأكبر".

بعد عملية الرصد للطلاب الجدد، تتحدد الهوية. وقبل التحاق هؤلاء بصفوفهم الدراسية، يلزمهم الالتحاق بأماكن تسكّعهم بحضن الطائفة المخصصة لهم في الجامعة. و"الأمريكان" أيضًا يؤمنون بالمساواة، تتوافر بذلك مساحة لكل طائفة أو حزب، من دون أن يظلم أحد. ثمة أولئك الذين ينجون من الفرز طبعًا ويصبحون طلابًا عاديين ليس أكثر، غير مرئيين، وغير ذوي جدوى في المعادلات الكبرى. كالانتخابات الطلابية، التي تحدد أعضاء المجلس الطلابي، الذي سيحدد في ما بعد أنواع النشطات، كرحلات التزلج إلى فاريا أو اللقلوق في حال حصول انشقاق ما، أو تنظيم حفلات تراثية لتقديم وجبات الطعام الوطنية كالشاورما والهوتدوغ وأشهى أنواع المأكولات الكوزموبوليتانية التي ستثري تجربة الطلاب الجامعية. بعد أربع سنوات في الجامعة أستذكر الوالد، وقراره المصيري بأن نجتاز السور لخوض التجربة الأمريكية. كان من الأفضل أن يستبدل ذلك الشريط "المعلوك" في السيارة. لا فرق بين "هم" و"إحنا". في الجامعة الأمريكية لا شيء أمريكيًّا سوى الكراسات، وعملة الأموال التي دفعها لكي ندرس في أفضل جامعات العالم.