15-نوفمبر-2023
غلاف كتاب التطهير العرقي في فسلطين

تتجدد الجريمة اليوم مع تغيّر أسماء الجناة فقط (الترا صوت)

في ضوء حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وعملية "التطهير العرقي" التي يمارسها ضد سكانه، تصبح العودة إلى كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" للمؤرخ الأكاديمي إيلان بابيه أمرًا ضروريًا. فالكتاب يسلط الضوء على الخطط الصهيونية للتطهير العرقي، مع التركيز بشكل خاص على عملية تهجير الفلسطينيين من منازلهم وقراهم في نكبة 1948، التي كانت جزءًا من سياسة ممنهجة يبدو أنها وصلت الآن إلى ذروتها.

يرجع ما حدث في عام 1948 إلى خطة تُعرف باسم "خطة دالت" التي وضعها مجموعة من القادة الصهاينة، وتهدف استراتيجيًا إلى طرد الفلسطينيين بشكل منهجي من منازلهم لإقامة "دولة يهودية" حصرًا. وباستخدام أساليب مثل الإرهاب، وحصار القرى، وتدمير الممتلكات، تم تهجير أكثر من 800 ألف فلسطيني، وتدمير 531 قرية، وإفراغ 11 حيًا في غضون ستة أشهر فقط.

ينظر قادة الاحتلال الإسرائيلي، والحركة الصهيونية عمومًا، إلى الفلسطينيين باعتبارهم "مشكلة ديموغرافية" يجب حلّها، بأي شكل، للحفاظ على الأغلبية اليهودية

تدّعي الرواية الإسرائيلية الرسمية أن الفلسطينيين تركوا بلادهم طوعًا عام 1948، لكن المؤرخون الفلسطينيون، وفي مقدمتهم وليد الخالدي، تصدوا لذلك بمذكرات ووثائق مجمعة عن حقيقة ما حدث من تهجير مُتعمّد وقاسي. بيد أن ذلك لم يدفعهم للاعتراف بحقيقة النكبة، كما أن الأمر واجه مقاومة إسرائيلية وصهيونية شديدة.

لم يمنع هذا بعض الإسرائيليين من الشك في حقيقة ما حدث. ففي ثمانينيات القرن الفائت، خرج من قلب "إسرائيل" مجموعة من المؤرخين عُرفوا باسم "المؤرخون الجدد"، ومن بينهم إيلان بابيه، التي سعت إلى إعادة تقييم حرب 1948وكشف زيف الادعاء الإسرائيلي بخصوصها وتسمية الأمر بمسماه الصحيح، أي أن ما حدث كان "تطهيرًا عرقيًا".

إن تعريف مصطلح "التطهير العرقي"، وفقًا لموسوعة هاتشينسون والأمم المتحدة، يحيل إلى عملية طرد بالقوة من أجل إيجاد تجانس عرقي في إقليم أو أرض يقطن فيها سكان من أعراق متعددة، وهذا التعريف يتوافق بدقة مع خطة "دالت" الإسرائيلية. ويصنف التطهير العرقي، سواء المزعوم أو المعترف به، كجريمة ضد الإنسانية في المعاهدات الدولية. ومع ذلك، لم يُصنف ما حدث عام 1948 كتطهير عرقي، بل

ويقول الكاتب إن ما حدث يبدو وكأنه حُذف من الذاكرة الجمعية العالمية، بالرغم من معرفة هوية الجناة في هذه الحالة، مثل ديفيد بن غوريون، ويغائيل يادين، وموشيه دايان الذين، رغم ذلك، لم يُحاكموا جراء ما فعلوا.

تعود جذور هذه الخطة بعمق إلى الأيام الأولى للحركة الصهيونية، إذ ركز المستوطنون في البداية على حيازة الأراضي من أجل الاندماج في سوق العمل المحلي وتطوير الاستراتيجيات للاستيلاء على فلسطين، وإقامة دولة قومية. وفي الوقت ذاته، تعامل الانتداب البريطاني مع فلسطين باعتبارها ضمن النفوذ البريطاني حتى عام 1928، وحاول إنشاء هيكل سياسي يتمتع بتمثيل متساو لكلا الطرفين.

وفي خضم المحاولات البريطانية لتحقيق التوازن بين المطالبات المتضاربة، وضع القادة الصهاينة خططًا تهدف إلى جعل فلسطين يهودية حصرية. وفي عام 1937، عند الحديث عن التقسيم، قبلوا بجزء متواضع من البلاد، لكنهم سعوا في عام 1942 إلى الحصول على فلسطين كلها، ما يعكس هدفًا ثابتًا يتمثل في إنشاء دولة يهودية بحتة، ليس فقط في بنيتها الاجتماعية والسياسية، ولكن أيضًا في تكوينها العرقي.

وفي سبيل ذلك، أنشأ القادة الصهاينة كيانًا عسكريًا مستقلًا كبنية تحتية لـ"الدولة المستقبلية"، وبدأوا في البحث عن الموارد المالية، وإنشاء هيئة دبلوماسية، وساعدهم في ذلك الضابط البريطاني أورد تشارلز وينغيت الذي أكد على ضرورة الاستعدادات العسكرية لحماية المستعمرات اليهودية، والعمل كرادع ضد المقاومة الفلسطينية.

كما تم إنشاء سجل تفصيلي للقرى العربية على يد بن تسيون لوريا للمساهمة في إعداد خطط الطرد، وتضمن السجل معلومات طبوغرافية وتفاصيل اجتماعية واقتصادية لكل القرى الفلسطينية، بل وشمل تصنيفًا لمستويات العداء.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تكثف العمل الاستخباراتي الصهيوني مع تجنيد "عزرا دانين"، مما زاد من كفاءة جمع المعلومات. وتوسعت الملفات لتشمل تفاصيل دقيقة عن العائلات، والانتماءات السياسية، والفروق الطبقية، وحتى أوصاف المساجد والأئمة. ومع اقتراب فترة الانتداب من نهايتها، تحول التركيز إلى البيانات العسكرية، مثل عدد الحراس والأسلحة.

وفي عام 1942، أعلن بن غوريون، بصفته وزيرًا للدفاع ورئيسًا للوزراء، عن المطالبات الصهيونية بفلسطين بأكملها، معترفًا بالأهداف القصوى للحركة. وعندما عادت فكرة التقسيم إلى الظهور عام 1946، سعى بن غوريون إلى الحصول على "قطعة" كبيرة، أي الحصول على 80 إلى 90 بالمائة من فلسطين الانتدابية، ما يضمن التفوق اليهودي.

وبعد الرحيل البريطاني، وبالتحديد في تشرين الأول/ أكتوبر 1948، تم الكشف عن الخطة د (دالت)، التي حسمت مصير الفلسطينيين من خلال الطرد المنهج والكامل من وطنهم. وقد حددت الصياغة استراتيجيات العمليات، بما في ذلك تدمير القرى وطرد السكان بأقصى الطرق الممكنة، كما حدث في دير ياسين، ومذبحة الدوايمة الأقل شهرة من دير ياسين لكنها أكثر فظاعة.

اعتمد تنفيذ هذه الرؤية على التفوق العسكري الصهيوني، حيث لعبت المنظمات الإسرائيلية مثل "الهاغاناه" وقوتها الضاربة "البالماخ"، بالإضافة إلى "الإرغون" و"شتيرن" أدوارًا رئيسية في تنفيذها. وقد واجهت هذه العصابات الصهيونية المسلحة والمنظمة جيدًا، مجموعات شبه عسكرية فلسطينية ذات موارد محدودة.

يسلط بابيه في كتابه الضوء على الخطط التي وضعها الصهاينة لتهجير الفلسطينيين الذين تعرضوا لعملية "تطهير عرقي" ممنهجة عام 1948

ينظر قادة الاحتلال، والحركة الصهيونية عمومًا، إلى الفلسطينيين باعتبارهم "مشكلة ديموغرافية"، يجب حلها للحفاظ على الأغلبية يهودية، واعترف بذلك "بن غوريون" صراحةً، لكنه كان في انتظار الفرصة. وجاءت هذه الفرصة في أوائل عام 1948، بعد قرار تقسيم الأمم المتحدة ورفض الفلسطينيين له، والحديث عن استعداد الجيوش العربية المجاورة للهجوم على إسرائيل، ما أعطى ذريعة للقادة الصهاينة لتأطير الاحتلال والطرد كإجراءات دفاعية أو إنكارها تمامًا.

في أعقاب حرب عام 1948 في فلسطين، اتسمت ردود الأفعال العربية بالتقاعس والارتباك والفوضى، وواصلت الحكومة الإسرائيلية، بدعم من الصندوق القومي اليهودي، الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية منذ الخمسينيات فصاعدًا. ولم يقتصر ذلك على تهجير أصحابها الشرعيين فحسب، بل أيضًا إعادة تسمية القرى الفلسطينية باعتبارها أماكن يهودية أو عبرية "قديمة" حصريًا، وإنكار النكبة وإدامة معاناة الفلسطينيين.

وبعد 75 عامًا من نكبة فلسطين نجد أنفسنا نشهد تكرارًا مؤلمًا للتاريخ بنفس المبررات والأعذار ونفس الهدف الأوحد المتمثل في "التطهير العرقي" التام للفلسطينيين.