21-ديسمبر-2021

عزالدين البوشيخي, المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية

مما لا يغيب عن الناظر في أحوال الأمم وعلاقاتها بألسنتها، فرادةُ علاقة العرب بلغتهم، على نحوٍ قد يحلو للبعض، محقين، أن يستدلوا به على فرادة هذه اللغة نفسها، في الماضي والحاضر معًا. ولعل أقرب وأطرف الأمثلة على تعقيد هذه العلاقة وخصوصيتها، ما رأيناه من تحوّل اليوم العالمي للغة العربية، إلى "ترندٍ" كاسحٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، يشارك به العرب كافّة، من مختلف الفئات والتوجهات والتخصصات. 

هذا الاحتفاء العفويّ العامّ بالعربيّة في يومها العالمي، بما له من دلالات سياسيّة واجتماعيّة هامّة، تزامن مع الذكرى الثالثة لانطلاقة مشروع معجم الدوحة التاريخي للغة العربية، وهو المشروع اللغوي الأضخم على الإطلاق في تاريخ العرب والعربية، والذي سيشكّل إتمام مراحله الأساسية في السنوات المقبلة حدثًا حضاريًا معلميًا وفارقًا، يوفّر مصدرًا معرفيًا يمكّن أخيرًا من تتبّع تاريخ ألفاظ العربية وأصلها وتطوّر معانيها ودلالاتها، بما يكشف عن حيويّة هذه اللغة وخصائصها وحجم مدونتها وغناها، وفي صعيد رقميّ واحدٍ مجانيّ وميسّر للباحثين والمهتمين. فقد أُطلق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية رسميًا في 10 كانون الأول/ديسمبر عام 2018، ليكون بذلك أوّل معجمٍ تاريخي للغة العربية، بمرحلة أولى مكتملة تشمل ألفاظ العربية حتى عام 200 للهجرة، وضمن تحديث مستمرّ تنشر بموجبه المداخل المعجمية المحرَّرة والمعتمدة من المرحلة الثانية الممتدة حتى العام 500 للهجرة، في مراهنة معرفية كبرى، تليق بهذه اللغة وتراثها وتاريخها، وتشكّل دعامة أساسيّة لمستقبل أفضل لأهلها.

وفي هذه المناسبة التي سيذكرها التاريخ دومًا بما تستحقّ، سنحت لنا فرصة التواصل مع المدير التنفيذي لمعجم الدوحة التاريخي، الدكتور عزالدين البوشيخي، والذي تفضّل بهذه الإجابات.


  • ما الذي يعنيه مضيّ ثلاثة أعوام على إعلان الانطلاقة الرسمية لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية؟

ما يعنيه مضيّ ثلاثة أعوام على الإطلاق الرسمي لمعجم الدوحة التاريخي للغة العربية عبر بوابة إلكترونية أنه كان أوّل معجم تاريخي في تاريخ العربية والعرب، قدّم ألفاظ اللغة العربية عبر خط الزمن راصدا تطورها البنيوي والدلالي من أول نص عربي موثّق حتى العام 200 للهجرة، ويعني ثانيا أن العمل فيه ظل مستمرا لم ينقطع، سواء بإعداد ببليوغرافيا المرحلة الثانية الممتدة حتى العام 500 للهجرة، وبناء مدوّنتها، وتحرير ألفاظها ومراجعتها واعتمادها ونشرها.

البوشيخي: وضعنا الأسس العلمية والمنهجية والتقنية والبشرية لصناعة معجم تاريخي للغة العربية على غير منوال سابق

وبإمكان الجمهور المهتم والمتابع أن يستفيد من هذا المعجم الذي تزيد مداخله المعجمية عن 100 ألف ويُتوقّع أن تصل إلى 200 ألف مدخل معجمي بإتمام المرحلة الثانية منه، وأن يستفيد من الخدمات التي تقدمها البوابة، كالمدونة اللغوية ومصادر المعجم والإحصاءات وغيرها.

  • "المعجم في تحديث مستمرّ".. تبدو هذه العبارة في الموقع الرسميّ للمعجم بارزة، وكأنّها تريد أن تنقل رسالة أو تنبيهًا ما للمستخدم، [رغم أنها عبارة تكاد بأحد معانيها تكون بديهيّة، نظرًا لطبيعة اللغة نفسها ومفرداتها]. ما أهمّية هذه العبارة للمعجم التاريخي للغة العربية؟

من بين ما تفيده عبارة (المعجم في تحديث مستمر) أن المواد المعجمية المنشورة تخضع لنوعين من التحديث: الأول تحديث تاريخ بعض المداخل المعجمية التي بيّنت مصادر المرحلة الثانية أن ألفاظها استُعملت في سياقات أقدم، والثاني تحديث المواد المعجمية بإضافة التطور الحاصل في مبانيها ومعانيها في المرحلة الثانية الممتدة حتى العام 500 للهجرة. وبذلك يتمكن الجمهور المهتم من معرفة تطور كلمات اللغة العربية على مدى عشرة قرون.

وتفيد العبارة أيضا أن إدارة المعجم منفتحة على تلقّي ملاحظات العلماء والباحثين والاستفادة منها ما دامت تنسجم مع منهجية المعجم وضوابطه.

  • يقارن البعض بين مشروع العمل على معجم تاريخيّ للغة العربية، كما هي الحال في معجم الدوحة التاريخي، ومشاريع سابقة للغات أخرى، كمعجم أكسفورد الكبير أو المعجم التاريخي للغة الفرنسية، لكن ما التحدّي الفارق أمام هذا المشروع الضخم عربيًا؟

ثمة عدة تحدّيات فارقة، من أهمّها طول عمر اللغة العربية الذي لا يقارن باللغات العالمية الحيّة، ويلزم عن ذلك ضخامة تراثها المعرفي المخطوط والمطبوع. ويرتبط بذلك ما يعتور المدوّن من ذلك التراث من صعوبات تتعلق بالتأكد من صحة المتن وصحة النسبة لكثير من نصوصه. فما ينبغي للمعجم أن يتضمن لفظا محرّفا لم يستعمله العرب، أو ينسب استعمال لفظ إلى مؤلف غير المؤلف الحقيقي للنص، أو أن يضع تاريخا غير صحيح لاستعمال هذا اللفظ في نص من النصوص. ويقتضي التأكد من صحة المعلومات التي يقدمها المعجم لجمهوره جهدا كبيرا من لجان المجلس العلمي وخبراء المعجم.

ومن التحديات الفارقة أيضا إنشاء مدونة لغوية تكون منطلقا لاستخلاص ألفاظ المعجم وشواهدها ومعانيها، ويلزم لتحقيق ذلك رقن عدد ضخم من النصوص غير المرقونة لبناء مدونة قابلة للتخزين والبحث والاسترجاع وغيرها من العمليات التي يحتاج إليها الخبير المحرّر. ومن تلك التحدّيات وضع دليل لضوابط التحرير المعجمي يوحّد بين الخبراء الممارسات المتعلقة بالصناعة المعجمية ويوحّد منهجيتها وإجراءاتها العمليّة. ومن تلك التحديات تصميم بيئة حاسوبية متكاملة لعمل الخبراء، تستجيب لمتطلبات الصناعة المعجمية ولمختلف مستويات العمل والصلاحيات. وليس أقل من التحديات السابقة تكوين طبقة من الأساتذة الباحثين لممارسة الصناعة المعجمية؛ إذ من المعلوم أن الجامعات العربية والمعاهد العليا تفتقد في عمومها إلى تكوينات في الصناعة المعجمية والخبرة في ممارستها.

ونستطيع القول إننا تجاوزنا كثيرا من تلك التحديات، ووضعنا الأسس العلمية والمنهجية والتقنية والبشرية لصناعة معجم تاريخي للغة العربية على غير منوال سابق.

  • لطالما كان العرب سبّاقين في الصناعة المعجميّة، والمعاجم التراثية حتى القرن الثامن عشر خير دليل على ذلك، هل من حلقة مفقودة تفسّر التأخّر في تصوّر معجم تاريخي للغة وإنجازه؟

يبدو أنه غلب على المعاجم العربية الطابع التزامني، وغاب إلى حدّ بعيد الاهتمام بالطابع التاريخي. ومن المعلوم أن الخيارات المنهجية التي تبناها اللغويون القدامى حدّت من العناية بالألفاظ المولدة والمستجدة في اللغة العربية، وظلت المعاجم العربية عموما قاصرة عن رصد الكلمات التي يستعملها العربي في تآليفه ونصوصه. وفي العصر الحديث ظلت محاولات إنجاز معجم تاريخي للغة العربية تراوح مكانها، وأهمها محاولة المستشرق الألماني فيشر ومجمع اللغة العربية بالقاهرة. وتبعا للحكمة الشهيرة "التأخر عن الوصول خير من عدم الوصول"، نركّز جهودنا على إنجاز هذا المعجم بصورة مؤسسة علميا ومنهجيا خدمة للعربية والعرب والباحثين في العالم بأسره.

  • تتزامن ذكرى إطلاق معجم الدوحة التاريخي للغة العربية مع يوم عالميّ لهذه اللغة، هو 18 كانون أول/ديسمبر. كيف لمعجم الدوحة أن يشكل ركنًا مثبّتًا لموقع العربيّة بين مجموعة اللغات البشرية التي تزاحمها اليوم؟

حقيق باللغة العربية أن يكون لها معجم تاريخي يجعلها في مصاف اللغات العالمية على هذا الصعيد، ويرنو معجم الدوحة التاريخي للغة العربية للقيام بهذه المهمة النبيلة. ومن الناحية العملية، يشكل هذا المعجم قاعدة بيانات معجمية تتيح استخلاص أصناف من المعاجم اللغوية والمصطلحية المتنوعة بتنوع حاجات المتكلم العربي، كما يشكل قاعدة لغوية مهمة تسمح بتطوير اللغة العربية على نطاق واسع، وفي مجالات مختلفة: تعليمية وعلمية.

البوشيخي: بإمكان الجمهور أن يستفيد من هذا المعجم الذي تزيد مداخله المعجمية عن 100 ألف ويُتوقّع أن تصل إلى 200 ألف مدخل معجمي بإتمام المرحلة الثانية منه

وثمة مشروعات بحثية مهمة تستند إلى هذا المعجم سترى النور في المستقبل المنظور. وبهذا المعنى نقول إن معجم الدوحة التاريخي للغة العربية يؤسس لنهضة لغوية حقيقية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن الرجل الذي التهم القاموس

هل يلزمنا تعلّم لغات أخرى، غير الإنجليزية؟

الحقّ في المكتبات العامّة وسؤال الديمقراطية