29-نوفمبر-2021

المعاجم من أهمّ المشاريع الحضارية على الإطلاق (OED)

ألزمت نفسي هذا العام بتطوير عادة جديدة، أو ما أطمح بأن يترسخ عادة لديّ، وهي النظر في القاموس، كوسيلة لاستغلال همزات شيطان التشتيت الرقمي الذي تلبّسنا. لم يكن الأمر سهلًا في البداية، بسبب التنبيهات اللعينة على الهاتف، فعطلتها وقلبت الهاتف على وجهه، وتمكنت بعد جولات طويلة من تعديل الحيل، من بناء أساس أوّلي لهذه العادة التي كانت فيما مضى متقلّبة وتعتمد على ما تطرأ حاجتي إليه من الرجوع إلى القاموس والنظر فيه للتأكد من كلمة ما. فدائمًا ما تنتهي عيادة القاموس بحثًا عن كلمة بعينها بقراءة عدة صفحات منه قبل العودة إلى العمل. المهمّ الآن أن نظري يتجه إلى القاموس أو القواميس المتناثرة حولي، أثناء ساعات العمل،طمعًا بها وبما تحويه، ورغبة في إشباع معرفة عن هذا العالم عبر الكلمات وتعريفاتها والشواهد عليها، وطموحًا في الانتقال من القراءة الاستجمامية للقاموس إلى قراءة كاملة وفق منهج وغاية محددتين.

المعجم العربي حتى يغري غير المختصّ بقراءته، كلّه أو بعضه، لا بدّ أن تكون مادّته بغنى ما تضمّنه قاموس بوزن القاموس المحيط، والذي يعدّ من أصحّ ما ألّف في اللغة العربية

ولأنّا في نهايات عام، والنهايات فرصة للاعتراف، فأنا مدين بهذا التعديل السلوكي الطفيف لإلهام من عدة أشخاص، أولهم هو الشيخ الليبي الطاهر أحمد الزاوي، رحمه الله، وهو صاحب ترتيب القاموس المحيط للفيروزآبادي، المكنّى، لمحاسن الصدف، بأبي الطاهر. 

اقرأ/ي أيضًا: كيف دخل تقليد "كلمة العام" إلى الإنجليزية وما الذي تغيّر في عام الجائحة؟

ولو سألتني لماذا، لأجبت بأن المعجم العربي حتى يغري غير المختصّ بقراءته، كلّه أو بعضه، لا بدّ أن تكون مادّته بغنى ما تضمّنه قاموس بثراء القاموس المحيط، والذي يعدّ "من أصحّ ما ألّف في اللغة العربية نقلًا، وأدقّها وضعًا، وأوسعها مادّة"، بحسب وصف الزاوي في مقدمة ترتيبه. هذا شرطٌ أوّل في تقديري. أما الثاني فهو أن يكون هذا القاموس على قدّ قدرة القارئ المعاصر غير المتخصص وتوقعاته على مستوى الترتيب والتعليقات التوضيحية. فالقاموس المحيط، الذي صار هو "القاموس" لما حظي به من شهرة وقبول وتناول وشرح ومدارسة، معجم هائلٌ في حجمه غير أنّه مرهِب في ترتيبه الأصلي المعتمد على الحروف الأصلية للكلمة، واعتماد آخر الحروف كأبواب للمدخل المعجمي.

نسختي من ترتيب القاموس المحيط 

فلو بحثت مثلًا عن كلمة "إمّع"، فلن تجدها في باب الهمزة، بل في باب العين، تحت فصل الهمزة. ورغم أن النظر فيه والاستفادة منه ليس من ضرب المستحيلات بحال، وذلك بفضل جمال تعريفات الفيروزأبادي وسهولتها، إلا أن إخراج الشيخ الزاوي للقاموس بترتيب عصري يراعي ترتيب الكلمات على الحروف الأوائل، دون تفريق بين الزائد والأصلي، ضمن له حياة جديدة، خاصة للطلبة وغير المتخصصين، أو ربما يجدر بي أن أقول إنّه كان يفترض أن يضمن له حياة جديدة، ذلك أن ترتيب الزاوي يعدّ من الكتب المهملة رديئة الطباعة والإخراج ومحدودة الانتشار، رغمَ ضخامة الجهد الفردي الذي استغرق منه عشرين سنة من العنت، الممزوج على الأغلب بالكثير من اللذة النادرة.

صار لزامًا عليّ أن أذكر شيئًا عن الطاهر الزاوي هنا.

 لعل الكثيرين منا يعرفون الآن جيمس موري، الذي ينسب له الفضل في وضع قاموس أكسفورد (في القرن التاسع عشر). فبعد الفيلم الشهير "الأستاذ والمجنون"، صرت أتخيّل سمت موري وشكل بيته، بل وبتّ أحتفظ في ذهني بصورة عن زوجته وأسرته، وملبسه، ومزاجه. لكن ما الذي نتخيله عند التفكير بأبو المعجمية العربية، الخليل بن أحمد، الذي وضع كتابه الفريد المرتّب على مخارج الحروف، في القرن الثاني للهجرة (الثامن للميلاد)، سوى هوّة هائلة من البعد والإغفال والجهل والعجمة المطبقة؟ والمؤسف أن ما ينطبق على الفراهيدي من إهمال في الذاكرة العربية الشعبية، ينطبق على كل من أتوا بعده من كبار المعجميين في تاريخ العربية، حتى يومنا الحاضر، أي وصولًا إلى الظاهر لويس معلوف صاحب المنجد، أو البعلبكيين، أو صاحبنا الطاهر الزاوي.

الطاهر الزاوي (الجزيرة)

الطاهر الزاوي، المؤرّخ واللغوي والفقيه المجاهد، ابن مدينة الزاوية الليبية، ولد فيها عام 1890 وهناك نشأ وتعلّم. جاهد في شبابه ضد الاحتلال الإيطالي، ودوّن مبكرًا الكثير من أخبار المقاومين، إلى أن غادر مصر بعد معاهدة "أوشي-لوزان" بين إيطاليا وتركيا، والتي تنازلت بموجبها الأخيرة عن طرابلس الغرب للمستعمر الإيطالي. هناك في مصر، درس في الأزهر وحصل على شهادة العالِمية، وألف كتبًا كثيرة في التاريخ والأدب واللغة، كما اشتغل في الصحافة والنضال السياسي، وكتب ضد الملكيّة والاستبداد في ليبيا، حتى سحبت منه جنسيته ومنع من دخول بلاده والعودة إليها حتى عام 1967. استماله القذافي بعد انقلابه مطلع الستينات، واختاره لرئاسة دار الإفتاء الليبية بعد أن عاد من مصر، إلا أن مواقفه ضدّ الاستبداد والعسف في الحكم لم ترق للحاكم العسكري، فسلّط عليه القذافي أقلام أجرائه، وبدأت حملة تسفّه الرجل وتتهمه ب"الثورة المضادة" والرجعية، ومنعَ الزاوي من الردّ عليهم بالمثل، فاستقال من منصبه بعد فترة وجيزة، واختار العزلة أو فرضت عليه حتى آخر حياته، رحمه الله. 

الرجل الذي التهم القاموس

أمّا الثاني، ولتسامحني العربية والشيخ الزاوي والقارئ على هذه القفزة العجيبة، فهو الكاتب الأمريكي "آمون شيا" (Ammon Shea)، والذي يعرف في دوائر المتحمّسين للحركة المعجمية في اللغة الإنجليزية منذ مطلع الألفية الجديدة بأنه الرجل الذي قرأ قاموس أكسفورد كاملًا، على مدى عام كامل، والتهم عشرات القواميس الأخرى. تعرفت على حكاية هذا القاموسي الهاوي في محاضرة سجّلت في الذكرى الثمانين لقاموس أكسفورد الشهير، ثم في كتابه الشهير "قراءة قاموس أكسفورد" (Reading The OED)، الذي صدر بطبعته الأولى عام 2008، والذي يسرد فيه قصّته مع القاموس وقراءته وما استفاده من ذلك.

آمون شيا (NPR)

من غير المألوف أن يهتمّ أحدٌ بقراءة قاموس كامل. ربما يكون مفهومًا، بل ومتوقعًا، أن يمارس القارئ أسلوب القفز والوثب أثناء تصفّح المعجم، حين يعزم الذهاب مثلًا إلى باب الهمزة، ليتحقق من كلمة "أحّ" فيجد نفسه قد فتح على باب الباء، لتقع عينه على "برز"، فيرى أن أول معنىً مثبتٍ فيه هو "خرج إلى البَراز"، ثم يجرب حظّه من جديد فيفتح صفحة أخرى ويقرأ فيها "بحباحة"، وهي المرأة السمجة. ثمّ يصل أخيرًا إلى "أحّ"، بمعنى سعل، ثم يرى أن العرب كانوا يسمّون بياض البيض بالآح، كما يجد أسفل منها كلمة "أحّى" أي تنحنح. هذا القفز والوثب، الذي اشتكى منه عبد الفتّاح كيليطو، قبل أن يدرك أنه قدره، يتجلّى في هذا الشكل من السلوك التصفحيّ للقاموس، والذي يخيّل إليّ أنه شائع لدى كلّ مترجم أو حصّاد للألفاظ والمعاني.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الوراقين: معاجم المعاني

أما أن يلتهم أحدٌ أبجدية وجميع بناتها الشرعيّات المحسوبات رسمًا عليها، فهو أمر نادر وربما مستهجن، كاستهجاننا أن يعمد أحدٌ إلى دليل الهاتف ويقرأ كل مدخلاته. لكن ذلك ما حصل، أو ما ادّعى هذا الرجل حصوله، حيث قرأ حوالي 22،000 صفحة، وزهاء نصف مليون مدخل قاموسي، في عامٍ واحد فقط. 

لنا أن نستغرب ذلك، ولنا أيضًا أن نشعر بالغيرة ممّن تتسنّى له الفرصة والمزاج والعزيمة لاقتراف بدعة بهذا الحجم. يخبرنا آمون شيا في كتابه أن أوّل عهده بتصفح القواميس كان وهو في سنّ العاشرة، فتملّكته تلك اللذة الأولى منذ ذلك الحين ولم يقلع عن هذا النشاط السيزيفيّ حتى اليوم. يدّعي آمون شيا أنه قرأ عشرات القواميس والمسارد وكتب الأضداد وقواميس المرادفات ومعاجم اللهجات، والمعاجم المتخصصة في العلوم الطبية وعلم النفس وغيرها. قرأ كل ذلك قراءة مدمن باحث كل مرّة عن تلك اللذة البكر، حين سحره محيط اللغة الزاخر وهو طفل صغير، يعاني صعوبة في تشكيل الجمل والتعبير عن الذات والعثور عليها، حتى وجدها بين ثنايا قاموس عتيق. 

تلك الصدفة التي أذكت لدى آمون هذا ولعه المبكّر بالكلمات، رسمت مصير هذا الطفل ومستقبله، وكل تفاصيل حياته وعلاقاته مع الأشياء والأشخاص. لم يؤهّله ذلك ليغدو أكاديميًا ثقيل الظل دائم الشكوى، فقد عمل صاحبنا في مهن مختلفة، عتالًا وسباكًا، لكنّه ظل يعود إلى متعته الأولى، التي ستجعل منه لاحقًا كاتبًا شهيرًا، وناشطًا لغويًا، بعدّة نادرة من الكلمات التي أنجبتها الإنجليزية على مدار تاريخها (المتواضع). لم يكن هدفه صقل نثرٍ ولا تحسين شعر، فلا هو بروائي ولا قاصّ ولا شاعر. كل ما بحث عنه هو لذّة اكتشاف معانٍ ومفاهيم فريدة وطريفة، ليستعرض بها في كتاب شبه سيريّ، شديد الظرافة ومليء بالألعاب اللغوية، والكلمات الغريبة، مثل كلمة (Agathokakological)، وهي صفة لكل ما يجمع في جوهره بين الخير والشرّ. ثمة كلمات أخرى من مختارات الكاتب كفيلة بأن تدخلك بمعانيها وشواهدها عوالم بديعة من السحر والأدب. خذ مثلًا كلمة (Lectory)، والتي تدلّ على المكان المخصص للقراءة، أو الفعل (Neighborize)، أي أن تتصرف مع الآخرين كما يجدر بالجار أن يتصرف مع جيرانه. أما في الحرف الأخير فتطالعنا كلمة مهمّة في سياقنا العربي، وهي (Zabernism)، والتي تعني سوء استخدام السلطة العسكرية، وأصلها أن جنديًا ألمانيًا اسمه "زابر" (Zaber)، قد أطلق النار على رجل ابتسم في وجهه، فأرداه قتيلًا، وشاعت قصّته حتى ذهبت مثلًا، وصيغ من اسمه في الإنجليزية كلمة. الأمر أشبه بأن نرى يومًا كلمة "الأسديّة" في أحد قواميسنا العربية، وهي كلمة استخدمت غير مرّة في مقالات صحفية، وتحيل إلى معنىً لا يخفى على أحد.  

ولئن كان شعور الغيرة واردًا أثناء قراءة كتاب آمون وقصته، فإن الشعور بالحسرة قد يكون أكبر. لم يأت آمون شيا بما هو خارق في الكتاب. كان ذكيًا وقنّاص فرص، حين نسج قصّة لا يملك أحدٌ التشكيك بها، وراح يسرد في كتاب لطيف وأنيق عشرات الكلمات المدهشة في دلالاتها، وشواهدها التاريخية وأصولها وتحوّلاتها. فالمهم ما يصدّقه الناس، لا ما حدث. ثم إن الممتع في الكتاب هو ما يحويه من إضاءات نادرة على دلالات وضعت لها كلمات لمفهمتها والتعبير عنها، واللغة الإنجليزية مطواعة بما يفوق الوصف، لا سيّما أنها لا تتورّع عن التطفّل على أيّة لغة والاستعارة منها بلا تحفّظ ولا قيود. 

بيد أن تلك الدهشة من ذكاء الكاتب ولغته، لا تقوم أمام دهشتي اليومية مع القاموس العربي. من ذا الذي يتخيل مثلًا، أن العرب وضعوا كلمة للتعبير عن حركة ذيل الكلب (بصبصة)، ومشية السكران (كعترة)، وأن (المِنسف) هو الرغوة من اللبن. بل ستجد أن العرب قد وضعوا كلمة لوصف السواد في منخر الكلب (هرتمة)، وفعلًا لوصف الرجل يمنع نفسه عن الطعام وهو يشتهيه ليؤثر به غيره (عجفَ)، وفعلًا آخر لمن يحسن تغذية صاحبه ويكرمه بالملحم من الطعام، وهو الفعل (سرهف)، وآخر للذي يسيء غذاء ولده (جدعَه) وأن من معاني (الأجر) الذِّكر الحسن، وأن الرجل إذا تزوّج من ثالثة فقد (أثفى)، وأن (زيّط) في اللهجة المصرية، فصيحة، فالزياط هو الصياح واختلاف الأصوات. 

من المحال نظريًا أن يستخدم العرب اليوم فعلًا مثل سرهف، فهو فعل موات، غير أن قراءة الكلمة موثّقة والبحث عن شواهدها، سيعني الكثير للمهتمّ بمعرفة طرف عن معاش العرب

من المحال نظريًا أن يستخدم العرب اليوم فعلًا مثل سرهف، فهو فعل ممات، غير أن قراءة الكلمة موثّقة والبحث عن شواهدها، سيعني الكثير للمهتمّ بمعرفة طرف عن معاش العرب قديمًا، عبر اللغة التي كانت سائدة في كل عصر من العصور. ولعل هذا ما يجعل مشروع المعجم التاريخي للغة العربية، مثل معجم الدوحة التاريخي، من أهمّ المشاريع الحضارية على الإطلاق، والذي سيمثّل إنجازه علامة مبينة في تاريخ العرب وثقافتهم.

أخيرًا، أذكر ما قاله آلبرتو مانغويل حين تحدث عن ذلك الصبيّ الجالس على جذع شجرة في البريّة، يمسك كتابًا جعله يشعر بأنه سيّد أسياد المكان والزمان. ذلك الفتى لم يكن وحيدًا، أما الكتاب الذي حمله بين يديه، فلم يكن غالبًا سوى قاموسٍ عظيم.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

كارمن مولا والاستعاريّون الثلاثة.. تكسّب أدبي باسم المرأة أم حيلة مشروعة؟

هل يلزمنا تعلّم لغات أخرى، غير الإنجليزية؟

الحقّ في المكتبات العامّة وسؤال الديمقراطية