18-يناير-2021

مكتبة مدينة بيرمنغهام البريطانية (Getty)

في كتابه "ذاكرة القراءة" تحدّث ألبرتو مانغويل عن "أخلاقيات المواطنة" وتساءل إن كان بوسع المكتبة الوطنيّة، بوصفها رمزًا لهوية المجتمع، أن تساهم بترسيخ الاتفاق العام على المبادئ الأساسية الناظمة للمجتمعات الإنسانية الحديثة، أو التي يفترض أن تكون كذلك، كالديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وحرية الضمير والمعتقد، والاتفاق على نقد ومواجهة توحّش السلطة الحديثة وهوسها بالسيطرة والرقابة وتقييد الحريات وتهميشها.

الديمقراطية بحاجةٍ للمكتبات، ليس لاعتبار أن المكتبة مساحة حرّة لاجتماع الكتب في شتى المعارف وحسب، بل من باب أنها وسيلة لنشر المعرفة وتوعية العامة وتعزيز ملكاتهم النقدية، بما يضمن إدراكهم لحريتهم في المعاش والمعتقد وحقهم في العيش الحرّ الكريم

والجواب الواضح الذي يقدمه مانغويل وآخرون غيره ممن بحثوا في العلاقة بين المكتبة العامة والمواطنة والديمقراطية، هو أن الإمكان قائم ويفترض أن يكون جوهريًا في دور المكتبة العامّة وتأسيسها لحقّ مدنيّ في المعرفة الديمقراطيّة الحرّة، والتعلّم والاهتمام بالشأن العامّ والتفاعل مع الآخرين من مختلف التوجهات والآراء في بيئة حرّة تضمن المشاركة في تحاور عقلاني مدنيّ واستعادة الرويّة والأريحيّة التي افتقدها الناس في وسائل التواصل الاجتماعي. هذا ما أدركه بجلاء فرانكلين روزفلت، الرئيس الأمريكي الذي يرتبط ذكره بتطوّر فكرة "المكتبة الأمريكية العامة" المعاصرة، كصرح رمزيّ مؤسس للديمقراطية الأمريكية. يقول روزفلت إنه لا يمكن تخيّل الاستغناء عن المكتبات العامّة لبناء المجتمع الديمقراطي، كما أنه يرى في المكتبة العامّة أظهرَ رمزٍ مدنيّ على حريّة الفكر. فالديمقراطية بحاجةٍ للمكتبات العامّة، ليس على اعتبار أن المكتبة مساحة حرّة لاجتماع الكتب في شتى المعارف وحسب، بل لأنها كذلك وسيلة لنشر المعرفة وتوعية العامة وتعزيز ملكاتهم النقدية، بما يضمن إدراكهم لحريتهم في المعاش والمعتقد، وحقهم في العيش الحر الكريم، ويعزز المساواة بينهم على شتّى الصعد. ومن هنا صار النظر في عدد المكتبات العامّة وتوزعها وحرية الوصول إليها وأعداد من يرتادونها من المؤشرات التي تشي بحال الديمقراطية في بلد ما، فهي مقياس على وعي الناس بحقّهم الأصيل في المعرفة الحرّة، والتي تعدّ أساسًا تقوم عليه ممارسات أخرى كحريّة التعبير والاجتماع والاختيار الديمقراطي.

اقرأ/ي أيضًا: عن مكتبات تركيا

ثم إن المكتبة العامّة ليست مجرّد بناء جامد تحبس فيه الكتب، أو هذا هو المفترض على أية حال. ففي الدول التي تضمن حريّة المكتبات وتنشغل بتطويرها، ستجد البرامج والفعاليات والمحاضرات والأنشطة التي تستهدف الناس من مختلف الفئات والأعمار، يساعدهم الخبراء والمرشدون المتخصصون من "عمّال المعرفة"، الذين يقفون في خطّ الدفاع الأول عن عقول الناس أمام المطحنة الرقميّة للبيانات والأخبار الموجّهة أو المفبركة وكبسولات المعرفة المبسترة وتحيّزات الشبكة وخوارزمياتها. وهذا تحديدًا ما يزيد الحاجة إلى المكتبات العامّة وعمّال المعرفة المتخصصين فيها. فالحال اليوم هي أننا بتنا تحت سطوة وهم امتلاكنا للمعلومات في العالم الرقمي، فهي على بعد نقرة على جوجل وحسب، لكننا ننسى أن جوجل ليس سوى شركة كبرى، لن تخدم بالمحصّلة سوى مصالحها التجارية. فوجود جوجل لا يعني أنك ستصل إلى معرفة ما تبحث عنه، بل يمكن أن يعني في كثير من الأحيان وصولك إلى ما تريدك الشركة معرفته وحسب، ذلك أن المجّانية البحثية على جوجل لا تعني بالضرورة توفير الحريّة الحقيقية للمستخدم في العثور على ما يبتغيه من المعرفة.

المكتبات العامّة هي "قصور الشعب" بحسب تعبير فرانسين هوبن مصممة المكتبة العامة في بيرمنغهام البريطانية، فهي ليست مكانًا للمعرفة وحسب، بل مكان للمتعة والاجتماع وبناء العلاقات وإعادة الاشتباك مع الواقع والارتباط بالطبيعة والتعرف على المكان والشعور ولو للحظات بالرغبة في امتلاكه، أو بالانتماء إليه والتوحد معه والتفكير عند مغادرته بإمكان العودة إليه. إنها المكتبة التي تخلق حالة لذّة مع المكان واشتهاء له، وتعيد تعريف "المكان العام"، وتستعيد وتيرة البطء الضائعة في عالم التقنية والسوشال ميديا، حيث يغيب التعلّق الحقيقي في العلاقات البشرية، وتتدنى القدرة على التركيز وتغيب الحدود بين الخاص والعام والفردي والجماعي. هنا ينتقل إدراك الحاجة للمكتبات العامّة من بكائيّات ساذجة على حالة القراءة والعلاقة مع الكتب وإحصائيات النشر ودقائق المطالعة إلى اهتمام بمركزيّة المكتبة العامّة للإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي في المجتمع والنضال من أجل المساحات العامّة التي خنقتها الأنظمة العربية خنقًا. إن الحقّ بالمكتبة العامّة، هو حقّ بالمدينة، هو حقّ بالمكان بحسب تعبير هنري لوفيفر، وحق بالديمقراطية والكرامة البشرية والحقوق الأساسية للإنسان. إن المكتبة العامّة بهذا المعنى هي مكان للصيرورة الفردية والجماعيّة، وتجربة العيش الحرّ، والتواصل بين جماعات المواطنين المتساوين حيث تغيّب المسافات التي بينهم، في قصرهم المشترك.  

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن مكتبات تركيا 

المكتبات العامة في الأردن.. هجرة إلى "الكافيهات"