07-أغسطس-2022
(Getty) العدوان الإسرائيلي على غزة

(Getty) آثار العدوان على غزة 2022

1

في كلّ مرة يشنّ فيها الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا جديدًا على قطاع غزة، أجدُ نفسي أتسمّر أمام التلفاز وأبكي أمام مشاهد القصف والدمار والدماء التي تأتي من هناك، في أول عدوانٍ شنّه الاحتلال الإسرائيلي على القطاع عام 2008 كنتُ لا أزال طفلة في الصفّ العاشر، وفي العدوانين الثاني والثالث اللذين شنهما جيش الاحتلال على غزة عام 2012 و2014 كنتُ في المرحلة الجامعية، في العدوان الرابع الذي شنّه الاحتلال على القطاع العام الماضي كنتُ أودّع آخر سنواتي العشرينية، وفي هذا العدوان الخامس التي بدأه جيش الاحتلال ها أنا في عمر الثلاثين، أجلسُ أمام التلفاز، أشاهدُ هذا العدوان الغاشم، وأرى آثاره، وأبكي، كأنني لا أعرفُ فِعلًا سوى البكاء، كأنّ البكاء هو ملجئي وملاذي الوحيد، كأنّه ذلك الفعل الذي أفعله –منذ طفولتي- ليأكل فيّ شعور العجز الذي يأكلني، ليخفّف من وطأته قليلًا.

من قال إن التقدّم في السنّ كفيلٌ بأن ينفضُ عنا شعور العجز أمام الأحداث التي لا نملكُ فيها سوى أن نكون في مواضع المتفرجين؟ من قال إنّه كفيلٌ أن يُنجينا من ثِقل عجزنا أمام صور الدماء والأشلاء؟

من قال إن التقدّم في السنّ كفيلٌ بأن ينفضُ عنا شعور العجز أمام الأحداث التي لا نملكُ فيها سوى أن نكون في مواضع المتفرجين؟ من قال إنّه كفيلٌ أن يُنجينا من ثِقل عجزنا أمام صور الدماء والأشلاء؟ إنّنا في مواضع المتفرجين لا نملك سوى أن نبكي ونبكي، بكاءً هوَ أقرب إلى طلب تكفير، وكأننا نقول من خلاله: اغفري لنا يا غزة خيارنا الذي لم نختره، أن نكون في مواضع المتفرجين، نبكي عجزنا الدائم الذي يتكرّر مع كلّ عدوان.

2

أذكر أنّ صديقًا عزيزًا لي من غزة راسلني في أثناء العدوان الذي شنه جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 2014، أرسلَ لي حينها صورةً لمنزله الذي دمّر تمامًا، وصورةً له يقف على أنقاضه، وفي هذا العدوان الأخير الذي شنّه جيش الاحتلال شاهدتُ مشهدًا مدميًا لصديقٍ وصله نبأ استشهاد صديقه، فأطلق صرخة وجعٍ عظمى وقال بصوتٍ منتحبٍ باكٍ: "صاحبي مات"، لا أعرفُ لماذا استذكرتُ ذلك الصديق الذي أرسل لي صورة له فوق أنقاض منزله في ذلك العام، ولا أفهم لماذا تملّكتني رغبة عارمة في إطلاق صرخة انتحاب بكائية/ احتفائية أنا أيضًا، ما أعرفه أنني وددتُ أن أبارك فيها نجاة ذلك اللعين، الذي لولا شعرة المصادفة التي جعلته يختار أن يخرج من منزله حينها، لكان يُمكن أن يكون أيضًا، صديقي وصاحبي الذي مات!

3

مع كلّ عدوان إسرائيلي جديد على غزة، تكون مشاهد الأطفال أكثر المشاهد التي تُدمي القلب، في هذا العدوان الأخير رأيتُ مشهدًا لطفلتين غزيتين خائفتين، تجلسان على كنبة في منزلهما، تُغلقان آذانهما بأيدييهما هربًا من أصوات القصف الخارجية، سألتُ نفسي: ترى هل يفهمان ويعرفان معنى ذلك الوحش الذي يُدعى الموت، والذي يُهددهما في كلّ لحظة وحين؟ كيف يتخيلانه في ذهنهما الصغيرين؟ هل يريانه في صورة الوحش الذي طالما تبدى في كوابيسهما مختبئًا في الخزانة؟ أم يبصرانه في أشكال أفظع وأكثر قُبحًا؟ يُمكنني أن أخمّن بأنّهما قد لا يفهمان معنى الموت، لكنّهما يعرفان أنّ أنيابَ وحشٍ ما تَسكن صوت القصف الذي يسمعناه قادمًا من آلة القتل الإسرائيلية، وأنّهما يشعران باقتراب تلكَ الأنياب منهما مع كلّ اشتدادٍ لأصوات ذلك القصف، إنّهما يسدان آذانهما بتلك الطريقة كردّ فِعل دفاعي، يُحاولان أن يَمنعا اقترابها منهما قدر الإمكان، يُحاولان أن يُبعدا مشهدها عن رأسهما؛ مشهد أنيابٍ لوحشٍ قذرٍ يريدانه أن يبقى مختبئًا في خزانة كوابيسهما اللاواعية.

هل يعرف الأطفال في غزة معنى ذلك الوحش الذي يُدعى الموت، والذي يُهددهم في كلّ لحظة وحين؟ كيف يتخيلونه في أذهانهم؟

 

4

لم أعرفه سوى في صورته التي نُشرت بعد استشهاده، لم أعرف اسمه كاملًا حتى، ما عرفته أنّ اسمه يوسف، وأنّ عمره 25 عامًا، عرفتُ من صورته أنّه شاب وسيم، يجلسُ في بدلة مهندمة، على مكتبه الذي بدا لي كأنّه في مكان عمله، خاطبته كأنّني أجلسُ أمامه في كرسي مكتبه الأمامي: لا أعرف عنكَ شيئًا، وأريدُ منكَ أن تُحدّثني عنك، أريدُ أن أعرف آمالك وأحلامك، طموحاتك الصغيرة والكبيرة، أمنياتك التي ما زالت في قائمة الانتظار، قائمة الأفعال الحياتية التي تودّ أن تفعلها، هيا حدّثني عن أفعالك المجنونة، ودعني أستمعُ إلى ذنوبك وآثامك، اهمس لي بالأخيرة بيني وبينك، أسردها عليّ بصوتٍ خفيض كما يفعلُ معي كلّ أصدقائي الذين يَعرفون أنني أفهمُ الذنوب على أنّها انتصارٌ للجانب الإنساني الذي يسكننا جميعًا، هيا أخبرني بكلّ هذا يا صديقي، انتصر للجانب الإنسانيّ فيك، وبح لي بقصتكَ كاملة.