21-مايو-2021

طفل في غزة في 21 أيار/مايو (Getty)

جاء العيد متأخرًا أسبوعًا عن موعده في غزّة، لكنّها لم تفوّت فرصة الاحتفال هذه المرة، فراحت تُكبّر وتُهلهل في الشوارع الملأى بالركام الطازج.

صمدت غزة فقاومت فانتصرت.

لم تُنزل بالجيش الإسرائيلي خسائر فادحة، ولم تصنع مثله فظائع بالمدنيين، إلا أنها انتصرت بأمرين، بعزمها الذي جعل صواريخها تُغطي كل فلسطين، وبصمودها الذي أرغم العدو على إيقاف النيران دون شروط، بعد أن دخل في معركة حمقاء، غير مدروسة، بدا فيها ضائًعا ومتخبطًا ولا يعرف ما يريد.

بمثل هذا تكتب المدن أساطيرها!

بمثل هذا تغسل مدينة فقيرة وصغيرة تاريخًا من العار في أحد عشر يومًا عن شعبها الرازح تحت استعمار يشترك فيه النظام العالمي الذين يعبّر أركانه طوال الوقت عن عمق الشراكة بتأكيدهم المتواصل على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، ولا يسأل ممن، إذ لا ضرورة للسؤال ما دام حق الحياة معطى سلفًا وحصرًا لجهتهم فقط، ومحجوبًا عن الجهة الأخرى، جهة الشعب المظلوم المرغم على أن يقاوم وإلا فأنه سيُمحى.

صنعت غزة معجزة، أمطرت المستعمرة الكبيرة بصواريخها التي يمكن أن يقال فيها الكثير، باستثناء نكران أنها شجاعة

من هؤلاء؟ من أين جاؤوا في هذا العالم العربي المحطّم والممزّق؟ ماذا يريدون أن يفعلوا أكثر من أن يكونوا قرابين لمدن أخرى، على رأسها القدس، حتى يضبط العالم ساعاته على موعد إعلانهم الكبير للدفاع عن الكرامة. من هؤلاء؟ من؟

اقرأ/ي أيضًا: انتصرت غزّة، ماذا بعد؟

صمدت غزة وانتصرت بصمودها. هكذا وجدت أسبابها.

تلكأت إسرائيل فانهزمت. هكذا فقدت أسبابها.

أن تجد الأسباب للفعل أو القول، أو لكليهما معًا، هو أن تستمر.

أن تفقدها؛ أن تفنى!

حرب جنونية دخلتها غزة المحاصرة منذ قرابة خمسة عشر عامًا انتصارًا للقدس التي تتعرّض لاستباحة مهاويس التطرف الديني، الذين يشاركون في الحكومة الاستعمارية كي تبقى استعمارية، كي لا تتراجع عن سرّها المقدس ذاك أبدًا، والذين يشاركون فيها لكي يمنعوا العرب من أن يكونوا إلا في حدّ الأضعف والأدنى، القابل للبقاء في مستوى العبودية أو لكي يرحلوا.

حرب جنونية، ليست الأولى طبعًا قام بها كيان مغروس في أرض ليست أرضه، لأسباب سياسية داخلية تتعلق بحكومة لا تتشكّل، ورئيس حكومة لا يريد أن يغادر كي لا تبدأ محاكمته التي يبدو أنها لن تفضي لغير السجن. وعلى هذا، سيبحثون في استغلال قضية سكّان الشيخ جرّاح، واقتحام الأقصى، من اجل التصعيد، لعل دماء الأبرياء في غزة تمنحهم الحل الذي لم يجدوه في أروقة الكنيست.

وعلى الرغم من حرب التصريحات، والضغط الإعلامي المتواصل، حول الوصول إلى أهداف حاسمة وشخصيات قيادية، لم نسمع أكثر أو أبعد من تدمير بيوت وأبراج سكنية، ولم نر نصرًا أوضح من ضرب الماء والكهرباء. ثم رأيناهم يمدون أمد الحرب بحثًا عن نصر لم ولن يجدوه.

في المقابل، صنعت غزة معجزة، أمطرت المستعمرة الكبيرة بصواريخها التي يمكن أن يقال فيها الكثير، باستثناء نكران أنها شجاعة، فقلبت المعادلة وصاروا يهرعون في الكواليس وراء حل.

فكرتُ في هذه الأيام كثيرًا. والتفكير في مثل هذه الأجواء الغليانية عسير وصعب، فلم أجد أن هناك ما يخيفهم أكثر من أن نصبح شعبًا. يريدون أن يرونا أثنيات، أو طوائف، أو قبائل، أو أفرادًا مبعثرين، ويريدون إن لم نكن بين الموتى أن نبقى في حدود مجموعة بشرية أدنى من شعب، وأقلّ قدرة على تشكيل هوية، ولأنّنا نبتكر في كل يوم سبيلًا جديدًا إلى مزيد من الوحدة تراهم لا يصدقون أن كل ما انفقوه وما بذلوه لم يكن إلا دافعًا لبناء هوية مقاومة، هدفها الحرية وتحقيق الكرامة.

ربما لولا الحفاظ على رواية وطنية متكاملة تتوارثها الأجيال لما وجدنا الشباب الجديد يدافع عن بيته وحارته وقراه ومدنه. أنقذتنا الذاكرة حين جعلت القضية قصة شخصية، يحملها الجميع في قلوبهم فلا تقوى عليهم أسرلة ولا يضعفهم تطبيع.

انظروا تروا فلسطينيين فلسطينيين كما ينبغي لهم أن يكونوا.

في لحظات الغضب الكبرى، حضرت الأغاني الثورية حضور الدواء، فأدركت أن من غنوها أرادوها لمثل هذه اللحظات، كي يقاوم فيها الإنسان إلى جانب مقاومته للطائرات والقذائف وحوش التيه والحيرة والغضب التي تحاصره من كل الجهات، لهذا تنزل الأغنية من هذه الأغاني نزول الضوء على العتمات، فتمنحنا الشجاعة الكافية لنواصل الدرب.

ربما لولا الحفاظ على رواية وطنية متكاملة تتوارثها الأجيال لما وجدنا الشباب الجديد يدافع عن بيته وحارته وقراه ومدنه

درّبت نفسي على النظر إلى وجوه الشهداء. لم أترك للخوف من الموت الوقوف حاجزًا بيننا. أقرّب الصور لكي ألمَّ بملامحهم. لم يعودوا غرباء. هم أليفون رغم تمزّقهم، هم مكتملون رغم تناثر أشلائهم، هم واضحون رغم التراب والغبار والأنقاض.

اقرأ/ي أيضًا: في ضرورة التحرر من نكبة الوهم والاستسلام للصهيونية

عرفت معنى موت أهل غزة في حرب سوريا. ولأجل ذلك في ساعات شديدة الإظلام لم أعد قادرًا على التمييز هل ما يحدث أمامي يحدث الآن أم حدث من قبل؟

على كل حال، الاستبداد والاستعمار وجهان لعملة واحدة، قادران على تبادل الأدوار والوظائف والهويات، فالاستعمار استبداد، والاستبداد استعمار.

من أجل هذا حين يجد من يعل على توثيق الجرائم بحق المدنيين جثث أخويه بين دفعة القتلى الأخيرة، أو حين يركض طفل وراء جنازة أبيه كي يودعه بأقل الكلمات بلاغة وأكثرها إيلامًا؛ وقتها تتوحّد المدن المقهورة، والقرى المستباحة، وقتها تصير بلدان المقهورين مرايا، ولا فرق بين أن يحدث هذا في العراق أو سوريا، أو فلسطين.

في الاتجاه نفسه: القتلى واحد. الجثث الممزقة جسد واحد. المنازل المحطمة غرفة معيشة واحدة، لأنّ العدالة تجعلهم قضية واحدة.

ماتوا نيابة عنا. ليس لدينا شك في ذلك، فنحن الذين نجونا من الحرب نعرف جيدًا أن كل ميّت يموت نيابةً عن الآخرين، إذ من الممكن أن تصيب القذيفة أو الشظية أو الرصاصة أي أحد إلى جواره.

في الحروب، الموت مسؤولية جماعية، لهذا كل ما يخرج منه يتعلق بالعدالة والحقوق.

في السلام، الموت مسألة فردية، لهذا كل ما يخرج منه يتعلق إما بالفلسفة أو الطب.

أصرّت هذه الجولة على إسقاط أقنعة الدولة العنصريّة المريضة بالحقد والكره، لتبدو على حقيقتها: مستعمرة جمعت مجرمين مسعورين وراحت تُشرّع القوانين التي تحمي جرائمهم.

وأصرّت على تأكيد أمر أساسي، هو أن الناس يصبحون صادقين عندما يتعلق الامر بفلسطين. تراهم في الحياة اليومية بشريين مليئين بالنقائص والضعف والأنانية، لكن عندما تصل الأمور إلى فلسطين فعلى الفور يخرجون أنظف وأنبل ما فيهم.

هل يبالغ المرء إذا قال: أجمل ما في فلسطين أنها مثال؟

ما لن ننساه يا غزّة: تكبيرات العيد في غير موعدها وهي تعلن عيدًا آخر، وإنقاذ الأخوين الصغيرين للسمكة، وحطام المكتبة والكتب

بعد أحد عشر يومًا من النار انتهت الحرب على غزة، لكن ما بدأت من أجله لم ينته بعد، فلا تزال القدس تحت تهديدات التهويد والتهجير، ولا تزال مدن الأراضي المحتلة عام 1948 في مواجهة مفتوحة مع العنصرية التي لا ترى في كل ما هو عربي انتماء للبشرية، ولأجل هذا كله لا بد من مواصلة المقاومة الشعبية، لأنّ فلسطين ليست موسم فرجة او مسلسلًا شهيرًا نتابعه وننساه، بل قضية تحتاج إلى نَفسٍ وصبرٍ طويلي المدى، وإلى تكامل الجهود في نضال أبنائها، من الصرخة في المظاهرة إلى الكلمة المكتوبة والفيديو المباشر، وصولًا إلى البندقية.

اقرأ/ي أيضًا: في غزة المكتبة تواجه حربًا

ما لن ننساه يا غزّة: تكبيرات العيد في غير موعدها وهي تعلن عيدًا آخر، وإنقاذ الأخوين الصغيرين للسمكة، وحطام المكتبة والكتب.

سوف نتذكّر هذه الصور لكي تُوضع إلى جوار الشهداء، فكلّ شيء مساهم وله حصّة في هذا الصمود، ثم إنه ليس بالصواريخ وحدها تكتب المدن أساطيرها!

ولأنّ النصر يأتي مرّةً واحدة فقط، مرّةً واحدة نهائية، سنقول لأننا نعرف أننا لم ننته بعد: هذه جولة رابحة على طريق النصر الكبير.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ثورة في فلسطين التاريخية

من غزّة.. فلسطين كلّها قدس