09-ديسمبر-2018

قبة في زاوية سيدي صاحب في القيروان (فيسبوك)

مهّد الاقتباس بمختلف تنويعاته إلى تحطيم العادات البصريّة المتوارثة منذ القديم، واستعادة أشياء قدّمت سابقًا وتقديمها في شكل جديد، عبر خصائص فنيّة مستحدث وتغيير لحوامل ومقاسات العمل الفنّي المقتبس منه. صدر في الأيّام القليلة الماضية كتاب يضمّ مجموعة أبحاث قدّمت في ندوة علميّة دوليّة بمدينة المهديّة التونسيّة، تحديدًا دار الثقافة رجيش،  أيّام 2 و3 و4 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، تحت عنوان "هل استوعبت فاعليّة الاقتباس الكفاءات الإبداعيّة المعاصرة وأنهت بالتّالي حاكميّة الفنّ؟".  اشتمل الكتاب على مجموعة من النصوص والبحوث القيّمة قدّمها باحثون عرب، وحكّمها: محمّد بن حمّودة من تونس، ومحمّد الشيكر من المغرب، وحمدي صادق أبو المعاطي من مصر.

الاقتباس والمشترك بين الحضارات القديمة

شهدت الفنون الشرقيّة القديمة اقتباسات مشتركة ومتبادلة، خاصّة في المبادلات التجاريّة بين الصين والعالم الآسيوي، إذ تأثر الفنّ الإسلامي العبّاسي بالفنّين البوذي والمانوي الوافدين من أواسط آسيا والصين. فعلى سبيل المثال كانت وجوه أميدا دو الموجودة في معبد بيدو الياباني منذ 1053م مقتبسة من وجوه كهوف أجانتا الهنديّة التي تعود إلى ما قبل الميلاد، واقتبست المنمنمات الإسلامية استدارة الوجه الصيني والعيون المنحرفة وهالة اللّهب المأخوذة من تماثيل بوذا.

أثّر الفنّ العربي على الفنّ الأوروبي حتّى عصر النهضة، واقتبست الزخارف والطرز المعماريّة العربيّة الباقية كثيرًا

أثّر الفنّ العربي على الفنّ الأوروبي حتّى عصر النهضة، واقتبست الزخارف الإسلامية والطرز المعماريّة العربيّة الباقية مثل قصر الحمراء والجامع الكير في قربة، إذ أخذ الطراز القوطي شكل المآذن بقاعدتها المربّعة يعلوها شكل ثمانيّ الأضلاع، فآخر مستدير وبنوا بها أغلب الكنائس.

الجيوكندا وإعادة البعث المتواصلة

تعدّ لوحة الموناليزا، أو الجيوكندا، للفنّان الايطالي ليوناردو دي فينشي من أشهر اللّوحات التي أثارت فضول عدّة رسّامين ومصوّرين، أعادوا إنتاجها بأساليب شخصيّة متنوّعة قائمة على السخرية والباروديا، كان أبرزهم فنّان الدادائيّة مارسيل دوشامب الذي أعاد سنة 1919 رسمها على شاكلة بطاقة بريديّة، بعد أن أضاف لها شنبًا ولحية، ساخرًا من تقاليد فنون القرون الوسطى.

اقرأ/ي أيضًا: الفن الإسلامي.. تجريد وتحريف وتأمُّل

لجأ الفنّان الكولومبي فيرناندو بوتيرو سنة 1963 إلى رسم نفس اللّوحة مستعملًا نفس أسلوبه المعروف برسم الأجساد المكتنزة والبالونيّة وسمّاها "الموناليزا بعمر الثانية عشر"، ونسج على هذا المنوال عديد الفنّانين مثل أمادو مودغلياني، سالفادور دالي، رونيه ماغريت، جون ميشال باسكيا، كازيمير ماليفتش، جورج براك وآخرون.

موناليزا مارسيل دوشامب

يندرج فعل الاقتباس تحت راية "التأثر"، مبدأ يعكس التفاعل بين الفنّان وبيئته وقدوته أو الانتماء لنفس التيّار الفنيّ أو الفكريّ، وبوصول العالم إلى عصر المعلوماتيّة صار فنّ الاقتباس مفتوحًا ومتاحًا. لا يزال الحوار محتدمًا إلى الآن  في الغرب حول موت اللّوحة وإعادة بعثها.

الاقتباس إعادة صياغة وتوظيف المقتبس في شكل جديد

هنالك "علاقة تساكن بين نصّين أو أكثر، أو حضور فعلي لنصّ داخل نصّ آخر" كما قال جيل دولوز، لهذا السبب لا يعدّ الاقتباس البصري استعارة تكرّس علويّة الأصل على توابعه، بل إنّه آليّة توليديّة تحوّل عمل الاقتباس أنموذجًا يصنع تمايزًا جماليًّا خلاّقًا. يمتلك الفنّان المقتبس لأعمال أخرى ذات مبدعة ووعيًا جماليًّا وتاريخيًّا حقيقيّاً. تاريخ الفنّ وليد ترابط في اتبّاع لرغبة التجديد والتحديث، وفي ظلّ تعدّد الأساليب عبر العصور يمكن للفنّان أن يتفرّد من خلال الآخر والخروج بهويّة تشكيليّة متفرّدة ولو عبر أعمال معروفة تاريخيًّا واستدراج منطق تشكيليّ خاصّ، أن يستعيد على طريقته الأعمال التي يحبّها لدى الفنّانين الآخرين كما يؤكّد بيكاسو ذلك. المستنسخ هو جزء من أنفسنا يؤكّد باسكال كراجفسكي، وتحوّل من جمود الدلالة الأصليّة إلى دلالة الذات.

تجاوز الفنّانون القرطاجيّون الاقتباسات عن فنّ الفسيفساء الرومانيّ منشئين مدرسة قرطاج

خلال القرن الخامس قبل الميلاد كانت تونس، أو أفريقيّة، رائدة في فنّ الفسيفساء. تجاوز الفنّانون القرطاجيّون الاقتباسات عن فنّ الفسيفساء الرومانيّ منشئين مدرسة قرطاج لهذا الفنّ متجاوزين إياه كليًّا، وناحتين هويّة مميّزة وخصوصيّة. اقتباس أدّى إلى ابتكار مدرسة فنيّة جديدة. وتأكيدًا لذلك، اكتشف خلال الحقبة الاستعماريّة الفنّانون التونسيّون عالم التجريد وخلقوا أعمالًا تجريديّة ذات روح عربيّة صرفة مقتبسة من أعمال غربيّة، وهو ما يؤكّد أنّ هيمنة ثقافة ما على أخرى يحفّز فعل الاقتباس ويعمّقه. الهيمنة في حدّ ذاتها ظاهرة متغيّرة وكثيفة وعميقة، لكن لا بدّ أن يكون الاقتباس خلالها واعيًا ومتناغما مع الثقافة المحليّة.

الإنترنت حرّرت الاقتباس

يتأصّل فعل التجديد في أيّ مجتمع من خلال عمليّة التعلّم ينطلق من عادة فرديّة يقوم بها الفنّان التشكيليّ  تصير موضع مشاركة جمعيّة. لكنّ الاقتباس يتطلّب إعادة صياغة وتوظيف المقتبس في شكل جديد، وهذا أمر طبيعيّ بل ضروريّ للاعتراف بما قدّمه القدماء وبناء صيغ جديدة وبدائل تتلائم مع صيغة العصر، إذ ليست مهمّة الفنّ تقديم الشكل الخارجيّ للأشياء، إنّما تقديم المدلول الداخلي لها كما يقول أرسطو.

اقرأ/ي أيضًا: العري في الفن.. هاجس إنساني عابر للتاريخ

استطاعت شبكة الإنترنت -في عصرنا الحالي- أن تجمع في نفس الوقت بين القرب والانتشار والمؤانسة القادرة على تطوير التضامن، ومن ميزاتها أنّها اشتملت على بعد ذكيّ يسمح بالتفاعل. وبناء على ذلك انخرط العالم ضمن مجتمع أثيريّ وغير ملموس، وهو ما جعل المعرفة متاحة لكلّ الناس ونجحت الوسائط السمعيّة البصريّة في وضعها في قلب التسلية ما حرّر الاقتباس أكثر. إذ تطوّرت التقنيات الرقميّة بشكل هائل ولافت، خاصّة في مجال التصوير الفوتوغرافيّ، وأقالت الفنّان كثيرًا من الجهد لتشكيل خياله وتجسيد إلهامه.

جانب من قصر الحمراء

 

اقرأ/ي أيضًا:

أعطني بناية أعطِك فكرةً عن سكانها

لاريسا صنصور.. شتات الفلسطينيّ لا ينتهي