01-سبتمبر-2017

ولادة فينوس لـ ساندرو بوتيسلي/ إيطاليا

العري في الفن قضية معقدة وشائكة، تحمل جوانب متعددة، إذ أن المسألة أكبر من مجرد لوحة أو منحوتة جسد عار، بقدر ما هي قطع فنية تعكس أبعادًا جمالية ثقافية، يراها البعض عنوانًا للإثارة والإباحية، فيما يتذوقها آخرون كأعمال فنية تعبر عن جمال الإنسان وتحرره، حسب طبيعة المنظار الثقافي الذي ينظر به كل مجتمع إلى الجسد العاري.

العري في فن الإغريق

يظهر أن للعري تاريخ غابر مع الإنسان، إذ تخبرنا الآثار التي تركتها الحضارات القديمة أن التصوير الأيقوني للعري كان هاجسًا قديمًا قدم الإنسان، حيث وجدت جداريات كهوف في مصر والهند واليابان، تصور أجسادًا عارية. لكن العري كفن دقيق لم يولد إلا مع الإغريق، الذين كانوا يصورون آلهتهم الأسطورية، المذكرة منها والمؤنثة، بصريًا على شكل رسومات ومنحوتات، ككائنات سماوية مثالية ترمز للطهر والعشق الإلهي، كما نرى ذلك في التماثيل الفخارية لأسطورة "أفروديت"، التي تظهر امرأة فاتنة الجمال عارية كما ولدتها أمها.

تخبرنا الآثار التي تركتها الحضارات القديمة أن التصوير الأيقوني للعري كان هاجسًا قديمًا قدم الإنسان

منحوتة بوليكتوس الإغريقية

تناولت أيضًا منحوتات الإغريق أجساد المحاربين، يظهرون وهم عراة ببنياتهم الجسمانية القوية، أو كشهداء معارك يستحقون الاحتفاء بأجسادهم عارية، وبخلاف فن التعري المرتبط بجسد المرأة، كان الإغريقيون يضفون قيمة أكبر على جسد الرجل، للإحالة على القوة والجمال الذكوري البطولي.

اقرأ/ي أيضًا: رامبرانت.. يوميات المرح والاضطهاد

بالإضافة لذلك، تعطينا اللوحات والتماثيل، التي خلفها اليونانيون القدماء وراءهم، نظرة عن الشهوانية المتحررة، التي كان يعيشها الإغريق تصل درجة الإباحية، حيث نرى في أعمالهم المصورة مشاهد القبلات والعناق والغزل وغيرها من جوانب الحياة الجنسية.

العري في فن العصر الحديث

مع انتشار المسيحية بين الرومان، تراجع العري في الفن، بسبب التحريم الديني للجسد العاري، كبؤرة للنجاسة، إلا أن الكنيسة سمحت برسم آدم وحواء وهما يغطيان على عوراتهما بعض الأعشاب، مثلما أيدت تصوير مريم العذراء وهي ترضع طفلها، لكن دون أن يظهر جسدها عاريًا بشكل كامل.

لكن بانتهاء القرون الوسطى وبداية عصر النهضة في نهاية القرن السادس عشر، عاد التعري في الفن إلى أوجه من جديد، ليس فقط كلوحات تعكس جمالية جسد الإنسان، بل كسلاح لمواجهة الكنيسة، حيث كان مايكل أنجلو أول من تجرأ وقام برسم السيد المسيح ونحت له تمثالًا عاريًا تمامًا، قبل أن يقوم معارضو الإصلاح الديني بتغطية أعضائه التناسلية.

ثم بعد ذلك، صار العري في النحت والرسم "موضة" جديدة، تزيل شيئًا فشيئًا كل قيم الاحتشام والدنس التي أضفتها الكنيسة على الجسد العاري، وأصبح الفنانون يتفننون في تصوير أبطال الأساطير اليونانية والرومانية وهم عراة، بجانب الحوريات الإغريقية.

الراقصات وفلوتيستس، طيبة 1400 ق. م

ومع حلول القرن الثامن عشر والتاسع عشر، أخذ التعري في الفن يتطور وفق أشكال وأبعاد مختلفة، فظهرت مدارس فنية عديدة، كل حسب رؤيتها للجسد، منها مدرسة الإنسان الطبيعية التي تصور الأجساد العارية كجزء من الطبيعة والنقاء الفطري، والمدرسة الاجتماعية الناظرة للجسد العاري كمرآة لوضعيات اجتماعية، مثل الفقر والبراءة والبساطة والبؤس، وأيضًا هناك المدرسة الشبقية الرومانسية، التي تجعل الأجسام العارية كوسيط للمتعة واللذة، من خلال تصوير المرأة بوضعيات شهوانية ورومانسية.

وأما في الوقت الراهن، بعد أن تحرر الجسد من سلطة الحجب، بات التعري في الفن سمة منتشرة، بأشكال وطرق شديدة الوفرة كما ونوعا، بعد تدخل التكنولوجيا والإعلام والعلم في صناعة الفن، حتى أصبحت كل حالة فنية للعري هي تجربة شخصية فريدة بذاتها، لها دلالاتها وأبعادها الخاصة، التي يروم إليها صانعها.

العري في التجربة الفنية الإسلامية

ظل الفن في المجتمعات العربية الإسلامية محاصرًا من قبل سلطة فقهية منغلقة، تعادي مختلف الأشكال الفنية، سيما منها النحت والرسم والتصوير، ما عرقل تبلور فنون قائمة بذاتها خاصة بهذه المجتمعات، تعكس همومها وتجسد تطلعاتها، وإن كانت هناك محاولات فردية من قبل مبدعين على مر التاريخ الإسلامي، لكنها لم ترق أبدًا للمدارس الفنية المتكاملة كالشأن في الغرب.

 الجسد العاري في الإبداع التشكيلي العربي الإسلامي أيقونةً مبهمةً ترسم في غموضها والتباسها ملامح القهر والاستبداد والقتل الرمزي

أما بالنسبة للجسد العاري، فهو يغرق في باحة التحريم، خاصة جسد المرأة، حيث ينظر إليه كمصدر للغواية الشيطانية ومنبه للدعوة الجنسية، ولذلك كان الحجاب ركيزة أساسية للثقافة الإسلامية، التي تحث على الستر.

اقرأ/ي أيضًا: العراق وسوريا.. لعنات الإمبراطوريات الأبدية

ولذا فإن أي محاولة لرسم أو نحت الجسد العاري داخل هذه المجتمعات، مهما كانت الرسالة والدلالة، يكون مصيرها المصادرة والمنع وقد يصل إلى الأمر إلى العقاب، وبالتالي لا يمكن الحديث عن تجربة فنية للجسد العاري في الثقافة العربية.

يبقى الجسد العاري في الإبداع التشكيلي العربي الإسلامي، كما قال الناقد الفني إبراهيم الحيسن، أيقونةً مبهمةً ترسم في غموضها والتباسها ملامح القهر والاستبداد والقتل الرمزي، إذ لم يصل الجسد البشري في المخيلة العربية إلى النضج الدلالي الجمالي، ولا زال حبيسًا للنظرة الدينية والجنسية الضيقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرمز والإنسان.. أسطورة النسر السوري (1-2)

لنهدم تماثيلنا بأيدينا