13-مايو-2018

مدينة فاس بالمغرب

من خصوصية العمارة الإسلامية أنها لا تعتمد على الرسوم الجدارية التي تمثل الصور، وقلة منها اعتمدت فن النحت داخل باحاتها وأفنيتها الداخلية، وذلك يرجع إلى سبب عقيديّ بحت.

تحكي لنا العمارة عن نمط حياة وتفكير، وتفصح عن مدى انفتاح ذلك الشعب أو انغلاقه

لا أحد ينكر أن للفن الإسلامي تأثيرًا كبيرًا على جمال بعض البنايات التي لا تزال راسخة إلى حد الآن، خاصة المساجد والقصور التي اتخذتها العائلات الملكية مسكنًا لها، فنرى طرازًا معينًا يغلب على أغلب مميزاتها المعمارية من بينها المنارة والقبة والقوس والمشربية... إلخ، كل هذه التقنيات مستوردة من الحضارات الأخرى عمل المسلمون خلال العصر الأموي والعباسي على تطويرها، ثم وصلت العمارة إلى أوجها مع التفتح على الآخر في الأندلس، حيث نجد التماثيل لبعض الحيوانات ونوافير مائية عجيبة التي تحدثت عنها الكتب القديمة بإعجاب. لكن الأمر الجوهري والمشترك أن إقامة الملوك كانت دائمًا معزولة عن عامة الناس، فقد كانت تُضرب حول القصور أسوار عظيمة، ولا يسمح لأحد برؤية الحريم إلا مرورًا بالقهرمان وهي امرأة خشنة الطباع صارمة يكلفها الملوك بحراسة حريمه، والسهر على تطبيق قوانينه داخله. وقد ازدهرت تجارة أخرى في أوروبا خلال الحكم العباسي وهي تجارة الصقالبة، ويتم جلبهم من مختلف أصقاع أوروبا أطفالًا في معظم الأحيان ليصبحوا مماليكَ وخدمًا داخل القصور، وذلك بعد خصيهم وتدريبهم.

اقرأ/ي أيضًا: صراع البقاء في بيروت الأنانية

هكذا فإننا نرى نظامًا بكامله داخل البناية تتحكم فيه ثقافة السكان بشكل مباشر، بحيث تحكي لنا كل عمارة نشاهدها عن نمط حياة وتفكير ومدى انفتاح ذلك الشعب أو انغلاقه على الآخر المختلف. إن العمارة الإسلامية لم تتطوّر في مجملها إلا لتمجيد الشريعة وسن قوانينها الصارمة التي ظلت تحكم الناس لمدة قرون، وإن كان هناك بعض المعالم التي تقول العكس فلا يمكن أن يكون ذلك كافيًا لنغيّر من نظرتنا إلى حال المدن الإسلامية الحالية، والتي تأثرت عبر الزمن بما ورثناه من تراث و فكر. إن مدننا اليوم ترزخ تحت وطأة حكم الدكتاتور الواحد، الذي لا يسمح للمواطن برؤية ومعرفة ما بداخل هذه المباني الحكومية لأنه محرم، أو بكلمة حديثة ممنوع؟

نرى في كل مدينة محاكمها وجامعاتها ومدارسها ومؤسساتها الحكومية، التي تحتمي بجدران تفصلها عن الشارع والعامة، لأنها تمثل نفوذ السلطان أو الحاكم الذي يمثل الخليفة في شخص الحاكم أو الملك، ولا يمكن أن تدنس مثل هذه الأماكن لرفعتها وقداستها . فالقداسة جرثومة انتقلت إلينا عبر الأجيال بغير وعي منا، ورعيناها لتكبر وتترسخ في حياتنا اليومية.

أصبح الدكتاتور حاجة لا غنى عنها بالنسبة للشعب المحكوم بالشريعة الصارمة، التي تجعل كل جهد فني وعملي يصب في تبجيل هذه المقدسات. فنجد عدد المساجد يتزايد في كل زاوية من الحي بدعم من السكان أنفسهم، تحت حكم الصدقة والإحسان، ومن الناحية الأخرى لا تجوز الصدقة إلا لبناء المساجد رغم حاجتنا الماسة للمستشفيات والمدارس وما تلعبه من دور في رعاية المجتمع وتوعيته.

تستمر الدائرة المتسلطة داخل هذه المباني لتوضع حولها أسيجة فاصلة. والذي لا يدخلها للصلاة سيصبح مرتدًا وتنقلب هذه المنابر مركزًا لفتاوى التحريم وبث الكره في نفوس الآخرين. هذه هي الجدران المعنوية التي نصنعها لأنفسنا كل يوم. إن العمارة المشوهة والبناء الأصم البشع الذي يشوّه مدننا يمثّل فكرنا المحكوم بالحواجز الشرعية. فالجدران والأسيجة التي تحيط بمبانينا هي امتداد طبيعي لأفكارنا وثقافتنا الضحلة. ليجد المواطن نفسه قد فصل نفسه معنويًا عن كل ما هو جميل وكل ما هو طبيعي وحق له في هذه الحياة، فيتولد الكبت والحرمان من الجمال وينبثق الكره والعنف في نفوس السكان، لأنهم أينما يولون وجوههم يرون البشاعة والانغلاق. وهكذا فإن المواطن سيجد نفسه غريبًا في الشارع مفصولًا عن محيطه لا يتمكن من الولوج إلى الأبنية بسهولة. فهو لا يملك غير منزله ليمارس فيه سلطته ويفرغ فيه كبته.

نحن داخل دائرة مغلقة تكمل نفسها بنفسها، مركزها تحريم رؤية المرأة واقفة على الشرفة، والخوف من الحسد والعين، وأمور غيبية لا تزال للأسف تحكم العقلية الإسلامية. إن حالة اللاأمن هي التي دفعت بالمواطن إلى تسييج حديقته ونوافذه بقضبان حديدية، وقد عمل ذلك على تشويه واجهات العمارات التي كانت بدورها وليدة فكر متشدد. فالإرهاب الذي تشهده الدول الإسلامية الآن هو إرهاب فكري قبل أي شيء. وهو نتاج تفكير وحصيلة اعتقاد خاطئ.

لا يمكن للعمران أن يخدعنا في معرفة تفكير الشعوب ونمط عيشها، يمكن للمبنى أن يدلنا على كثير من الأشياء، مثلًا كيفية دفن الموتى، أو ما هي الشعائر التي يقوم بها الإنسان في أي ديانة كانت، أو يمكن معرفة بعض علومه وتقنياته من خلال المواد التي استعملها وطريقة البناء.

إذا كنا نمارس سلطة قمعية ضد المرأة وضد الحرية وضد الاختلاف، فإننا نمارس ذلك على العمارة بكل تأكيد

تخبرنا كذلك الحجرات والممرات الداخلية عن طريقة عيشه تفكيره وذوقه وكل ما يتعلق بنمط حياته بسهولة فائقة. الكل يشيد بحكمة اليونان وقوة الرومان ورهبة الأقباط من خلال ما تركوه لنا من إرث معماري يتكلم عن نفسه بنفسه، ويخرسنا كلما حاولنا أن نقول إننا أفضل الأمم التي أخرجت للناس.

اقرأ/ي أيضًا: الحقيقة ليست ما نعتقده دائمًا

إذا كنا نمارس سلطة قمعية ضد المرأة وضد الحرية وضد الاختلاف، فإننا نمارس ذلك على العمارة بكل تأكيد، وإن ادعينا عكس ذلك فستفضحنا البناية بكل واجهاتها، وتخبرنا كم نحن مثيرون للشفقة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العمران الجزائري.. تراث مضيّع وحداثة مستعجلة

في العمارة الجزائرية: حياة مفخخة